عام 2017، بدا كأن هالة الخجل والخوف انزاحت عن قضايا العنف الجنسي مع حركة "مي تو" التي جمعت تدريجياً شهادات مئات النساء حول العالم، عن تعرّضهن للعنف الجنسي والتحرش والاغتصاب، من قبل شخصيات نافذة من منتجين وممثلين وفنانين وسياسيين. وخلال 6 سنوات، حققت النساء في مختلف دول العالم، بما فيها العالم العربي وإن بنسبة أقل، انتصارات متتالية، فشغلت قضايا العنف ضدهن هامشاً أوسع في النقاشات العامة وصفحات الصحف، وبرامج التلفزيون.
كان الاهتمام بقضايا العنف الجنسي يرتفع وينخفض في الإعلام، لكنه بقي حاضراً في هذه السنوات، وصولاً إلى العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول مباشرة، انتشرت أخبار عن ارتكاب مقاومي كتائب القسام جرائم اغتصاب ضد إسرائيليات في مستوطنات غلاف غزة، وهو ما نفته حركة حماس بشكل متكرّر كما فشلت جهات إسرائيلية عدة في تأكيده. ثم تراجع الكلام عن الموضوع لصالح روايات إسرائيلية أخرى تبيّن أنها كلها جزء من آلة الدعاية الإسرائيلية الكاذبة، مثل قطع رؤوس أطفال رضّع.
مقابلةُ العنف الجنسي في "نيويوركر"
في الأسبوعين الماضيين عادت قضية جرائم الاغتصاب مجدداً إلى وسائل الإعلام بشكل أوسع، بالتزامن مع استمرار مجازر الاحتلال ضد المدنيين في قطاع غزة. هذه المرة كان للإعلام الأميركي الدور الأبرز في الكتابة عن الموضوع.
التقرير الأوّل نشرته مجلة "نيويوركر" (10 ديسمبر/ كانون الأول الماضي) بعنوان "كيف استخدمت حماس العنف الجنسي في 7 أكتوبر؟"، وهو عبارة عن مقابلة مع مديرة الأخلاقيات والسياسات في منظمة معالجون من أجل حقوق الإنسان في إسرائيل، هداس زيف. المنظمة كانت قد نشرت ورقة تحدثت فيها عن جرائم الاغتصاب.
تقول زيف في المقابلة "تعتمد ورقة التي أعددناها على مواد جمعناها من وسائل الإعلام العامة ومقاطع الفيديو التي شاهدناها في مجموعات على "تليغرام"، بالإضافة إلى مناقشات مع مستشار قانوني وطبيب متطوع مع مجموعة المجتمع المدني التي تدعم الرهائن وعائلاتهم. لم نقم بإجراء مقابلات مع شهود حقيقيين". تتواصل المقابلة وتدور بأغلبها حول اتهامات مفترضة، من دون أية شهادة حقيقية.
تحقيق "نيويورك تايمز"
في 28 ديسمبر، عادت صحيفة نيويورك تايمز لتنشر تحقيقاً آخر، بعنوان مشابه هو "صراخ بلا كلمات: كيف استخدمت حماس العنف الجنسي كسلاح في 7 أكتوبر". تحقيق الصحيفة الأميركية أجراه 3 صحافيين هم جيفري غيتلمان، وأنات شوارتز، وآدم سيلا "قابلوا أكثر من 150 شخص في مختلف أنحاء إسرائيل"، بحسب ما توضح الصحيفة في مطلع التحقيق.
أكثر من 3500 كلمة كتبت بتأنٍّ وبلغة إنسانية وعاطفية، لا تقدّم شهادة مباشرة واحدة لضحية من ضحايا العنف الجنسي المزعوم. التحقيق الذي يستند إلى شهادات 150 شخصاً (شهود، وطاقم طبي، وجنود، ومستشارو اغتصاب)، أغلبهم لم يكونوا شهود عيان.
لاقى التحقيق مجموعة من الانتقادات، أبرزها من ائتلاف من المجموعات النسوية العربية الذي أصدر بياناً فنّد فيه الأخطاء التي وقع فيها التقرير.
أكد الائتلاف إدراكه لـ"إمكانية حدوث العنف الجنسي في أوقات الحرب والصراع. وغالباً ما تتحمل النساء وطأة مثل هذه الصراعات، حيث يواجهن مستويات متعددة من العنف، بما في ذلك الاعتداء الجنسي. وعلى الرغم من ذلك، فإننا نجد التقرير مقلقًا للغاية لافتقاره إلى الحجج والأدلة ذات المصداقية، وفشله في تقديم أي من الضحايا المزعومين. نعارض بشدة استغلال أجساد النساء والعنف الممارس ضدهن في تمرير الدعاية المضللة".
وفي 13 نقطة مفصّلة يشرح بيان الائتلاف أسباب تشكيكه بتحقيق الصحيفة الأميركية، وما ورد فيه. أبرز هذه النقاط هي:
غياب شهادات الضحايا المباشرة أو مشاركتهن في التحقيق، عدم تقديم أي دليل أو رقم خصوصاً أن الصحيفة تقر في التحقيق أنها "لم تتحدث أي من الناجيات علنًا وأن الشرطة لم تجمع أي عينات من السائل المنوي من أجساد النساء، ولم تطلب تشريح الجثث أو تجري فحوصات شاملة لمسرح الجريمة".
كذلك ركز الائتلاف في مراجعته لمقال "نيويورك تايمز" على تماهي بعض الشهادات مع الرواية الإسرائيلية وتحميلها صوراً نمطية أو مشاهد سريالية لا يمكن أن تكون قد حدثت فعلياً على أرض الواقع، مثل شهادة سيدة قالت إنها رأت امرأة إسرائيلية أخرى "ممزقة إلى قطع صغيرة... بينما كان أحد الإرهابيين يغتصبها، قام آخر بسحب قاطع صندوق وقطع صدرها. وأخذ يستمر في اغتصابها، والآخر يرمي صدرها لشخص آخر، فيلعب به، ويرميه، فيسقط على الطريق". هذه الشهادة وغيرها تتنافى مع تقارير الشرطة الإسرائيلية حول حالة الجثث التي عثرت عليها في 7 أكتوبر.
كذلك استند تقرير الصحيفة إلى شهادات شخصيات سبق أن تبيّن أنها مصدر للأخبار الكاذبة، بينهم يوسي لانداو، أحد الشهود العيان الذين عملوا كمصدر لهذا التحقيق. إذ سبق أن قال لاندوا لشبكة سي بي إس نيوز في 11 أكتوبر أنه "رأى بأم عينيه أطفالاً ورضعاً مقطوعة الرأس" وهو ما تبيّن أنه مجرد رواية كاذبة.
وفي محاولة للهروب من غياب الشهادات الواضحة، حاولت الصحيفة الاستعانة بشهادات طبية، خصوصاً الفريق الذي حضر إلى مكان حصول جرائم الاغتصاب المفترضة، حيث تم جمع جثث النساء. يقول التحقيق إن العاملين الطبيين تمنوا "لو أنهم قاموا بتوثيق المزيد مما رأوه" ثمّ يقول هؤلاء إنه "في محاولتهم احترام الموتى (أي حمل الجثث ونقلها)، دمروا الأدلة عن غير قصد".
كُتب تحقيق "نيويورك تايمز" بلغة إنسانية واضحة، وبزخم عاطفي يجعل تعاطف القارئ تلقائياً مع كل ما يقرأه، حتى لو افتقد إلى المنطق أو الأدلة... وهي اللغة نفسها التي اعتمدتها أغلب المؤسسات الإعلامية عند حديثها عن العنف الجنسي.
"رويترز" أيضاً
لنأخذ على سبيل المثال تغطية وكالة رويترز للمقابلة التي أجرتها الرهينة الإسرائيلية ــ الفرنسية ميا شيم، التي أطلق سراحها من غزة نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، مع التلفزيون الإسرائيلي. تحدثت الشابة عن معاملة الآسرين لها، وكيف أنها كانت تتخوّف من تعرضها للاغتصاب، لكن ذلك لم يحصل "لقد كنت مسجونة في غرفة مظلمة، لا يُسمح لي بالتحدث مع أحد، لا يسمح لي أن أرى أحداً، أن أسمع، أن أختبئ. هناك إرهابي ينظر إليّ 24 ساعة في اليوم، ويغتصبني بعينيه".
في نقلها لتفاصيل المقابلة، اختارت "رويترز" عنوانين: الأول لنسختها العربية وهو "(اغتصبني بعينيه) رهينة إسرائيلية سابقة تروي تفاصيل احتجازها لدى مسلح حماس". الثاني في نسختها الإنكليزية "رهينة إسرائيلية سابقة تقول إنها كانت تخشى أن يغتصبها خاطفها في غزة". في النسختين ركزت الوكالة على الاغتصاب الذي لم يحصل، وتجاهلت الاتهامات التي وجهتها الرهينة الإسرائيلية السابقة للمدنيين على سبيل المثال حين قالت "لا يوجد شخص بريء في غزة"، في تبرير للمجزرة المتواصلة منذ 90 يوماً.
بايدن مجدداً
مطلع شهر ديسمبر/كانون الأول أصدرت مجموعات نسوية ومئات من الناشطات، من مختلف دول العالم، عريضة تدين استخدام الإدارة الأميركية ورئيسها جو بايدن "الادعاءات الواهية حول وقوع اعتداءات جنسية على الأسيرات والمحتجزات الإسرائيليات في قطاع غزة". واعتبرت العريضة، التي وقّعت عليها مئات من الناشطات النسويات حول العالم، ومجموعات نسوية عدة، أن "استمرار بايدن وإدارته في سياسة خلق الذرائع دعماً لاستمرار حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، قد بات مكشوفاً وواضحاً، ويهدف لمنح الغطاء للمجازر التي ترتكبها آلة الحرب الاحتلال الإسرائيلي".
وأكدت العريضة أن تبني الإدارة الأميركية لهذه الادعاءات جاء من دون تقديم أي شواهد ذات مصداقية، أو تحقيق من مؤسسات موثوقة، مؤكدة أن ذلك "جزء من حملة تشويه متعمد لنضال الشعب الفلسطيني ومقاومته المشروعة ضد الاحتلال، بجانب جميع الادعاءات السابقة كقتل الأطفال وحرق المدنيين والتي قد تم نفيها لاحقاً من الجهات التي روجت لها".
كما أوضحت العريضة أن حكومة الاحتلال الإسرائيلي المدعومة أميركياً، تعطل دخول أي بعثات دولية إلى قطاع غزة للتحقيق في الجرائم المروعة التي ارتُكبت ضد الشعب الفلسطيني، بما في ذلك الأطفال والنساء والرجال. كما ترفض التعاون مع هيئات دولية متخصصة للتحقيق في الادعاءات بشأن الاعتداءات الجنسية.
ودعت الناشطات إلى "إرسال فرق تحقيق تابعة لمؤسسات دولية ذات مصداقية تمثل النساء للتحقيق في جرائم الاحتلال في قطاع غزة، وفحص الادعاءات التي يتم استخدامها لتبرير الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني".
وأشارت العريضة إلى أن تاريخ نضال الشعب الفلسطيني، خلال مسار الصراع الطويل، لم يشهد مثل هذه الأعمال البشعة.