يقول الناقد، أحياناً، كلاماً قاسياً بحقّ فيلمٍ أو مخرج/مخرجة، رغم إدراكه أنّ إنجاز فيلمٍ غير سهلٍ البتّة، وأنّ الفيلم محتاجٌ إلى جهدٍ ومالٍ وفريق عمل، وأنّ إدارة فريق عمل صعبة للغاية، ومليئة بتوترات واضطرابات، وإنْ يكن هناك انسجامٌ وتوافقٌ بين الجميع. فالحصول على إنتاجٍ أو منح أو دعم مالي، لأفلامٍ عربية، دونه عقبات جمّة.
تزداد الصعوبات حدّة في عالمٍ عربيّ غير مُدركٍ إلى الآن أهمية السينما في الفنون والثقافة والاقتصاد والاجتماع. هذا غير شاملٍ الجميع، فكثيرون يعرفون ويهتمّون، لكن الجهات المتسلّطة على بلاد عربيّة كثيرة غير مكترثة وغير آبهة، وبعضها يقمع ويمنع ويُطارد سينمائياً/سينمائيّة يقول مغايراً، ويصنع مختلفاً، ويكشف ـ بالصورة والصوت ـ ما يرفضه أفرادٌ، ينتمون إلى تلك الجهات، وآخرون يمتلكون قوة وبطشاً وتحكّماً، مع أنّهم غير منتمين إلى الجهات تلك، فعلياً ومباشرة.
قول الناقد كلاماً قاسياً، يكون شتيمةً أحياناً، أمرٌ مُتدَاول، عربياً وغربياً. الكتابة مختلفة، لالتزامها مفردات وقواعد تلبّي حاجة النصّ النقديّ إلى سجال وتحليل ونقاش، من دون شتائم وتقريع. فيسبوك يمنح الجميع حرية كبيرة. مساحته شاسعة، وأحد اشتغالاته يتمثّل بإتاحته فرصة تنفيسٍ عن غضبٍ، أو قول انفعالٍ، أو البوح بتعبير من دون أي قيد. الشتيمة جزءٌ من هذا، وأحد أجمل ابتكارات "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) اللبنانية، رغم عطبها وتعطيلها، ماثلٌ في تمكّنها من إعلاء شأن الشتيمة، وجعلها في مصاف مُقاومة شعبية متواضعة لتنانين القتل والنهب والفساد.
لا علاقة لمكانة الناقد، في المشهد السينمائي والصحافي والثقافي والاجتماعي، بشتيمة يقولها. الشتيمة لن تُقلِّل من مكانته، لأنّها جزءٌ من تعبير، بينما الكتابة تمتلك قدراتٍ هائلة على ابتكار نقدٍ، لعلّه يتضمّن شتماً وتقريعاً غير واضحين ومباشرين، لما في اللغة العربية من بلاغةٍ رائعة. رغم هذا، يُدرك الناقد أنّ النقد ليس شتيمة، وقول السابق يُشير إلى معضلةٍ تُزعج مخرجين/مخرجات إنْ يتفوّه الناقد بشتيمةٍ، في مقهى أو لقاء، أو في فيسبوك. الشتيمة، ببلاغة اللغة العربية وجمالها أو من دونهما، لن تُعيب ناقداً يقول بها، ولن تُقلِّل من مكانته واحترامه المهنة والسينما والآخرين، وقبل هذا كلّه لن تُقلِّل من احترامه لذاته. للجميع وسائل مختلفة في قول شتيمة، بعضها متوارٍ في الخبث واللؤم وعدم الوضوح والمباشرة، وهذا أسوأ من شتيمة مُعلنة بوضوح ومباشرة، يقولها الناقد علناً ومن دون مواربة.
هناك قولٍ يُفيد بأنّ لأفرادٍ قدرة على ضبط النفس، تمنعهم من شتم وتقريع واضحين ومباشرين، لحجج كثيرة، أبرزها انتماء اجتماعي إلى طبقة أو جماعة تتمرّن على عدم البوح الواضح والمباشر عن شعور أو رأي، إلّا بعد تنقية البوح من كلّ شائبة، كي لا يُساء إلى سُمعة العائلة أو الطبقة أو الجماعة. أو ربما لعدم رغبةٍ في الشتم والتقريع الواضحين والمباشرين. الاختباء وراء قولٍ كهذا ساقطٌ، فالخبث واللؤم وعدم الوضوح والمباشرة أسوأ من شتيمة صريحةٍ وعلنية.
الشتيمة ليست نقداً، رغم وضوحها ومباشرتها، في موقف أو حالة أو انفعالٍ أو قول. لا ضير في الشتم، بين حينٍ وآخر، والناقد غير شتّامٍ أصلاً، وشتائمه قليلة للغاية. النقد ليس شتيمة، وهذا واضح ومباشر، مع أنّ تعابير كثيرة تكون شتماً وتقريعاً، لكنّ بلاغة اللغة تحصّنه من أنْ يوصف بكونه شتيمة وتقريعاً واضحين ومباشرين.
المعضلة كامنةٌ في مسألة أخرى: كلّ نقدٍ "سلبي"، بالنسبة إلى المعنيّ/المعنيّة به، يُرفَض غالباً، بحجّة تقول إنّ صُنع فيلمٍ يتطلّب جهداً ووقتاً وانفعالاتٍ وتوترات، والناقد يُلغي هذا كلّه بمقالةٍ يكتبها في مكتبه. هذا مُسيء جداً إلى الناقد، الذي يُدرك تماماً الصعوبات السابقة على تحقيق فيلم. لكنْ، أيتغاضى الناقد عن أخطاء أو خلل أو ارتباكٍ أو وهن في فيلمٍ، إرضاءً للجهد والوقت والانفعالات والتوترات؟ أيقدر الناقد على إلغاء كلّ تعبٍ يؤدّي إلى تحقيق فيلم، لأنّ مقالة له غير راضية أو غير متعاطفة، أو غير لاهيةٍ عن سلبيّات، عندما تنوجد؟ أو لأنّه يتفوّه بشتيمة أو تقريع واضحين ومباشرين؟ أيكون المطلوب من ناقدٍ أنْ ينتبه إلى هذا في كتابته نقداً، هو المُنتبه إليه تماماً، لكنّ النتيجة غير مُرضية أو غير صالحة كلّياً؟
للشتيمة أمكنتها. والنقد (أسوأ العاملين/العاملات في السينما العربية هم/هنّ أصحاب مقولة "النقد البنّاء"، المثُيرة لضحكٍ وسخريةٍ)، المُنتبه جيداً إلى الصعوبات كلّها، يُعنى أولاً وأساساً بالنتيجة المنبثقة من الصعوبات، مع احترامٍ (غير مُلزم بإعلانه دائماً، أو أبداً) لتلك الصعوبات. الشتيمة فعلٌ غير مُسيء لمُن يقول بها، ولا لمن توجَّه إليه، فالشتيمة تنفيسٌ عن غضبٍ لن يكون إهانة لأحدٍ، لأنّه ـ مع الناقد ـ آنيّ ومؤقّت، والهدوء آتٍ لا محالة، والقراءة النقدية حاصلة حتماً. النقد تعبيرٌ عن رأي، يجهد الناقد في كتابته من دون شتائم، وهذا يحتاج إلى مهارة الكتابة، وبلاغتها الرائعة. خاصة عندما يُضطرّ إلى إيجاد توازنٍ بين رفض البهتان في فيلمٍ، ورغبته الشخصية في عدم إزعاج صاحب/صاحبة الفيلم برأيه النقديّ.
المقالة النقدية، مهما تحمل من آراء، لن تؤثّر على جماهيرية فيلمٍ عربي معروض في صالة عربية. يُدرك الناقد هذا تماماً، كإدراكه بأنّ فعل القراءة في العالم العربي شبه منعدم، وبأنّ نسبة القرّاء متدنيّة إلى حدّ العار، وبأنّ الذين يقرأون نقداً سينمائياً أقلّ بكثير مما يظنّه عاملون/عاملات في السينما. النقد السينمائي العربي غير مؤثّر البتّة في نجاحٍ جماهيري لفيلمٍ، أو في عدم نجاحه. النجاح أو عدمه متأتيان دائماً من الفيلم نفسه، والغالبية الساحقة من مشاهديه يشتمون أو يمدحون، بوضوح ومباشرة، ومن دون بلاغة اللغة العربية وجمالها.
هذه إحدى المعضلات القائمة في العلاقة المرتبكة بين ناقدٍ وعامل/عاملة في السينما. معضلات تبدو أصعب من أنْ تُحَلّ، بسب هوّة سحيقة تفصل كثيرين عن الناقد. هوّة يريدها هؤلاء، غالباً، لا الناقد.