لم يعد يخفى على أحد تدخل مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) في الولايات المتحدة الأميركية، في الاتجاهات الفنيّة والثقافيّة أثناء الحرب الباردة، ومحاولته إلى جانب وكالة المخابرات المركزية (CIA) "اصطياد" الشيوعيين في هوليوود. بل يمكن القول إن كتاب "من دفع لعازف المزمار" لفرانسيس ستونر ساندرس، الصادر عام 1999، يمثّل واحداً من المصادر (وموّلد نظريات المؤامرة أيضاً) عن تدخل الحكومة الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) في دعم تيارات فنيّة وثقافيّة على حساب أخرى، عبر منظمات غير حكوميّة، من أجل الوقوف في وجه المدّ الشيوعيّ.
الآن، مصدر الجدل في هذا السياق، هو المغني الحائز جائزة نوبل للآداب، بوب ديلان (1941)، الذي بالتزامن مع حملة الترويج لألبومه الجديد، Rough and Rowdy Ways، كُشف عن وثائق سريّة تفيد باستهداف مكتب التحقيقات الفيدرالي له.
تشير الوثائق إلى أنه بعد شهر من اغتيال جون كينيدي عام 1963، وأثناء عشاء رسمي تحت اسم "عشاء وثيقة الحقوق"، تم تكريم ديلان، وقال في خطبة التكريم مترنّحاً إنه يرى نفسه في الشخص الذي أطلق النار على الرئيس الأميركي، قاصداً لي أوسوولد. هذه النكتة السمجة حركت مكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي كان خمسة من عناصره حرفياً "يكتبون تقريراً" بديلان، واستخدمت كلماته لاحقاً ضده في سبيل ملاحقته والتحقيق في انتماءاته.
بالطبع، وصل التقرير إلى إيدغار هوفر سيئ السمعة، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي أنشأ القوائم السوداء لـ"أعداء أميركا" ومنهم مارتن لوثر كينغ الابن، وأتبعت بمذكرة لاحقاً تصف ديلان بـ"تهديد للأمن الأميركيّ".
كلمات ديلان هذه أثارت حمية العملاء، لتتوالى المذكرات والتقارير، تلك التي سبقتها مقالات (يشكّ بكتّابها) في تلك الفترة تسخر من ديلان، بل حتى تتهمه بسرقة أغنيته الأشهر Blowin' In The Wind التي قيل حينها إن أحد زملائه في المدرسة كان قد كتبها.
يمكن تفسير هذه المحاولات، بأنها هجوم على ألبوم ديلان الصادر مطلع عام 1963، والذي يسخر فيه من الحرب الباردة؛ إذ جاء مثلاً في أغنية "الحديث عن بلوز الحرب العالميّة الثالثة": "هناك في الزاوية قرب بائع الهوت دوغ، رأيت رجلاً، فقلت له، مرحباً يا صديقي، ولم يكن هناك سوانا، صرخ قليلاً ثم هرب، ظن أني شيوعي". ناهيك عن الشبهات التي كانت تحوم حول صديقته حينها سوزان روتلو التي كانت عضواً في الحزب الشيوعيّ الأميركيّ وتحت مراقبة مكتب الاستخبارات.
تتكرر الحكايات من هذا النوع عن أثر المخابرات الأميركيّة والأوروبية في الأعمال الثقافيّة دائماً، إذ يتحرك الحديث بين الترويج لبعضها وتحويله إلى نموذج، أو الدور الاستخباراتي في خلق رقابة خفيّة، تقوم على الترهيب أحياناً، أو الاستمالة في الأحيان الأخرى. وحكاية ديلان هذه ليست إلا جزءاً من نشاط واسع لا يمكن رصده بسهولة.
المفارقة أن أي محاولة لوصف هذا النشاط الاستخباراتي أو الإشارة إليه، تدفع صاحبها إلى خانة الإيمان بنظرية المؤامرة، كأن نقول مثلاً إن شهرة جاكسون بولوك كانت بسبب دعم رسمي في سبيل تدمير الذائقة الفنيّة، والوقوف بوجه الواقعية السوفييتيّة.
هكذا قراءات ثقافيّة، تأخذ بعين الاعتبار القوى الرسميّة غير مقبولة في الفضاءات الرسميّة الجديّة. الاستخفاف بهذه الحكايات، سواء الخاصة بديلان أو غيره من الفنانين، لا يتعلق بأنها تكشف تورّط السلطة والمخابرات في العمل الفنيّ، بل كونها تهدد فردانية الفنان، وموقفه المفترض أن يكون مواجهاً للسلطة، التي تحاول الوقوف في وجهه.
نعم، ربما كان ديلان ضحية الاستخبارات، لكن كم فناناً ومثقفاً وفاعلاً ثقافياً اصطف إلى جانبه؟ لا نتحدث هنا عن جوزفين بيكر مثلاً التي عملت كجاسوسة، بل مثلاً والت ديزني، أو رونالد ريغان، الذي كان ممثلاً يتجسس على الممثلين المشتبه بشيوعيتهم، وللمصادفة أصبح لاحقاً رئيساً للولايات المتحدة.