لا يمكن تصوّر خريطة فلسطين، التي تُعلّق على جدار أو في سلسلة على الصدر، سوى تلك التي تشبه "شبريّة" فلاح، وإن أي تعديل بسيط هو حد الشفرة بين الوجود والعدم. وحين تشاهد ثلاثة أفلام فلسطينية، قصيران وطويل، بين جمهور خليط من عرب وأجانب، تبدو الجغرافيا مقسّمة، بلؤم وشراهة مستعمر استيطاني، إلى مناطق ومخططات حادة الزوايا.
وهي عنده كما عندك، من النهر إلى البحر، بالشبريّة الواضحة ذاتها، وهي بالسهولة ذاتها عند إنسان أجنبي؛ هو البرلماني البريطاني آندي ماكدونالد، الذي عُلقت عضويته لأنه هتف للحرية بين النهر والبحر بعد العدوان على غزة.
باقون كالجدار
سنكون أمام فيلم "في العودة إلى هبّة أيّار"، الذي افتتحت به الأمسية السينمائية، الخميس الماضي، في المتحف العربي للفن الحديث والمعاصر بالدوحة، وتلاه فيلم "كأننا عشرون مستحيل"، ثم "اليد الخضراء".
وهي ثلاثتها تدور في خريطة فلسطينية واحدة، رغم أن متراً واحداً يبعد عن الجدار العنصري يحدد الماهية التي تريد تشكيل مصيرك، كما تحدد ملامحك الشخصية وأنت ترفضه بطرق مختلفة.
أقدمها فيلم آن ماري جاسر "كأننا عشرون مستحيل" المنتج عام 2003. وكان مشروع تخرجها من جامعة كولومبيا الأميركية. لذلك، على عهدة مقدم الأمسية السينمائية، فإن جاسر تصنفه ما قبل الأول، باعتبار فيلم "ملح هذا البحر" عام 2008 هو الذي دشّن مسيرتها كمخرجة مستقلة في أول فيلم روائي طويل لها.
ومن العنوان نعرف بطاقة هوية الفيلم الدرامي الوثائقي المستل من قصيدة للشاعر توفيق زيّاد وفيها "كأننا عشرون مستحيل. في اللد، والرملة، والجليل، هنا.. على صدوركم، باقون كالجدار".
ولئن كان الشاعر يُنشد للباقين على أرضهم في ما يعرف بفلسطين الـ48، فإن السينمائية تقيم فيلمها عند نقطة تفتيش عسكرية إسرائيلية، اصطادت طاقم الفيلم من ممثلين وفنيين على أرض الـ67، التي يفترض أنها تحت سلطة فلسطينية وفق مسار أوسلو. كانت الانتفاضة الثانية (2000- 2004) مشتعلة حين قامت حكاية الفيلم في 17 دقيقة على وقوف طويل مذل في طابور الحافلات للذهاب إلى القدس، قبل أن يأتيهم الخبر من مواطن عابر بأن الحاجز بات مغلقاً.
لم يرجع الشباب والصبايا، بل قرروا المغامرة كما يفعل فلسطينيون آخرون، بسلوك طريق التفافي ريفي، ليفاجأوا بحاجز آخر هناك، يُسمى بحاجز طيّار. وسيقع الجميع تحت بنادق الجنود الإسرائيليين، وبالتالي التحقيق مع كل واحد منهم، وسيظهر من الفلسطينيين من هو ضفاوي لا يحمل تصريحاً لدخول القدس، وآخر مصور من "عرب الداخل"، أي بجنسية إسرائيلية، وواحدة فلسطينية بجواز أميركي.
والدقائق الطويلة على إحدى تلال فلسطين وقد مرت الكاميرا على قطيع أغنام بأكبر قدر من الهدوء، إلى أن أصبح التصوير مرتعشاً أمام جنود مسلحين يطلبون بعنف التوقف عن التصوير، لكن الكاميرا لم تنطفئ. وبقيت الصور تتدفق على نحو غير مريح ومتعمد من المخرجة، لكي تبدو الحقيقة كما هي واضحة ومنتهكة في آن.
هبة أيار
بعد 18 عاماً من فيلم آن ماري جاسر، فإن معجم المستحيلات ستجد تمثيلاً مفاجئاً للكيان الاستيطاني خلال مواجهته الكبرى "هبّة أيار" عام 2021، وذلك بالمعنى الذي قامت عليه الفكرة الفلسطينية الأولى، التي استعادت اسم فلسطين، وقد تميّع بين تسميات الضفة وغزة والداخل والقدس ومناطق "ألف" و"باء" و"جيم".
كانت كل فلسطين حول محور القدس تكتشف ذاتها الجمعية لأول مرة بهذه الكفاءة الميدانية الشعبية، بعد الاعتداءات الاستيطانية على حي الشيخ جراح وأعمال البلطجة في المسجد الأقصى.
ولأول مرة، سيظهر نزوع استيطاني سافر نحو ما يسمى "المدن المختلطة"، أي انفلات قطعان مستوطنين إلى أبعد من وجهتهم المفضلة في الضفة، نحو مهاجمة مواطني إسرائيل العرب للتضييق عليهم في مناطق سكنهم، واندلاع مظاهرات فلسطينية على كل فلسطين التاريخية، ثم إنذار محمد الضيف في غزة ببدء معركة "سيف القدس" يوم 10 مايو/ أيار 2021، إذا لم تكف إسرائيل عن الاعتداء على الأقصى.
من مكانه في حيفا، سجل الصحافي ربيع عيد بموبايله مظاهرات الفلسطينيين والتنكيل بهم على يد الشرطة، وكان في الأثناء ناشطاً على العديد من القنوات التلفزية ليقدم متابعته المباشرة في عين المكان. صارت تسجيلاته فيلماً من عشرين دقيقة بعد عام من الهبّة، حين قرر العودة من مكان دراسته في بريطانيا إلى فلسطين.
لقد انتفض شعب فلسطين في أيار 2021، وفي الذكرى الأولى وقع استشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة في أيار 2022 أثناء تغطيتها اقتحام قوات الاحتلال مخيم جنين.
كان الفيلم مشروع تخرج عيد، ويلخصه بأنه استعادة ذكريات وأحداث وأماكن "غادرتها ولم تغادرني". وهو من مكان عيشه حتى اليوم في لندن، استطاع تقديم فلسطين في شوارع حيفا والقدس ولندن، في ألبوم إنساني غير قابل للشك، تماماً كألبوم العائلة الذي تقلّبه أمه وتشير إلى صورته طفلاً في حفلة عيد ميلاد، وتماماً كصورة نعش شيرين وقد كاد الضرب بعصيّ الشرطة أن يسقطه ولم يسقط.
يد خضراء
في العام ذاته الذي صدر فيه فيلم "في العودة إلى هبّة أيار"، نقع على 65 دقيقة أخرى تديرها المخرجة جمانة مناع في فيلمها "اليد الخضراء". فإذا كان التاريخ يتقلب بين المأساة والملهاة، ها هو يتدهور هنا ويعرفنا إلى "المخزاة"، وهي مرحلة ضرورية في أي استعمار استيطاني، بل لولاها لا يمكن له أن يحكم القبض على سرديته.
فهو يبدأ من مقولات أسطورية في الولايات المتحدة مثلاً، تقتل باسمها الملايين من السكان الأصليين، ثم تبدو غير مضطرة إلى شرح تاريخي مغاير لذبح سبعين مليون ديك رومي سنوياً في احتفال الشراكة الإنسانية بين الأبيض الأوروبي والأحمر الذي ذبحوه وسموه، زوراً، هندياً أحمر.
هذا هو بالضبط ما يحدثنا عنه الباحث منير العكش في "المعنى الإسرائيلي لأميركا"، الذي بإمكاننا أن نعاينه في فيلم "اليد الخضراء"، من مجرد مشهد لمستجوب فلسطيني تهمته أنه يقطف العكوب أو الزعتر.
في مناطق الـ67، يواصل الفلسطينيون قطف الزعتر والعكوب البريين كما يحدث في سائر بلاد الشام، إلا أنه في إسرائيل يعتبر مخالفة جنائية لا يقترفها سوى الفلسطيني. ومحاضر التحقيقات تتضمن مستمسكات مثل كيس بلاستيك فيه قطفات برية، وسكين منزلي لمعالجة العكوب الشائك. ولفلسطيني كهل أن يجيب عن سؤال: "هل تقر بأنك ضبطت وأنت تقطف الزعتر في منطقة بات شلومو؟".
غالبية الناس تحاول النجاة من الغرامة أو السجن، ثم لا تجد مفراً من مراوغة القانون العجيب، كما وقع مع العجوز الذي تسلل ليلاً لجمع عكوب أجبرته الشرطة على رميه أرضاً في النهار.
بيد أن آخر لم يبدِ أي ندم، إنما اعتبر نفسه مدافعاً عن مبادئه، إذ الأرض نفسها "ليست لكم، فما بالكم بالنباتات"، واصفاً القانون الذي يمنع جمع الطعام من الغابات بالهراء، ومتعهداً بعد ضبطه في أعوام 2002 و2009 و2011، بأنه سيظل يقطف الزعتر والعكوب، وهما هبة الطبيعة الفلسطينية وسيواصله أبناؤه وأحفاده.
لا يبدو اليهود مغرمين بالعكوب الذي يمثل للفلسطينيين موسماً احتفالياً مع حلول الربيع. ولكن ما تسمي نفسها دولة القانون، تعرف من أين يؤكل العكوب، فقررت أن من يزرعه مستثمرون يهود والفلسطينيون يمكنهم أن يكونوا مستهلكين، وعليهم أن يقروا بأنْ لا فرق بين ما تمنحه الطبيعة وما تمنحه المزرعة الإسرائيلية.
بالضبط مثل أي مواصفات معصرنة تجعل من العالم العربي شرقاً أوسط، وتجعل من السلام كما قال محمود درويش "عملية سلام"، وبالتأكيد تجعل من المقاومة إرهاباً، وتجعل من الديك الرومي احتفالاً بالمحبة.
كانت أفلامهم الثلاثة مثل طيف واسع من الأعمال الفلسطينية، تؤدي تمثيلاً مثلما تنهل من الواقع، كلاهما صار مدرباً على الرفض والاستكانة والرفض، ما جعل الفلسطيني كائناً مزعجاً، فلا هو مباد في الداخل، الإبادة التي تحوله داجناً مزمناً، ولا أمسى على هامش الفعل الإنساني في المهاجر والشتات.
المخرجون الثلاثة يقيمون في ثلاث دول، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وهي ليست إقامات مؤبدة، إلا أنها تعطي ملمحاً من المشهد الواسع والمنتج والذي يحمل الخريطة الفلسطينية، وهي بسيطة حتى أن طفلاً يرسمها بسبابته في الهواء.