وقّع أكثر من 30 ألف شخص عريضة، بعنوان مثير للريبة والضحك؛ إذ نقرأ: "لا تسمحوا لجيف بيزوس بالعودة من الفضاء". حتى اللحظة، تجاوز عدد الموقعين الـ226 ألفاً و122 شخصاً. جاءت العريضة بعد إعلان بيزوس أنّه، وشقيقه مارك، سيصعدان إلى الفضاء بما يمكن وصفه بأنّه "نزوة ملياردير". ويمكننا قراءة رد الفعل الجماهيريّ على هذه الرحلة في وصف العريضة؛ إذ يرد فيها: "لا يجب أن يكون هناك مليونيرية، لا على الأرض، ولا في الفضاء، وإن قرّروا الرحيل، فعلينا أن نمنعهم من العودة".
تبدو العريضة ساخرة، وبالتأكيد لا يمكن منع بيزوس من مغادرة الأرض، ولا منعه من العودة إليها. لكنّ ما يثير الغيظ هو ما جاء به من شرح يوضّح سبب الرحلة: "إن شاهدت الأرض من الفضاء؛ فالأمر سيغيرك، ويغير علاقتك مع الكوكب ومع البشريّة، هي أرض واحدة". يبدو كلام بيزوس رومانسياً، لكن لمَ لا؟ هو أغنى رجل على كوكب الأرض (ضمن الإحصاءات الرسميّة والمصرّح عنها)، ويحق له ما لا يحق لغيره.
لكن، الواضح أنّ هناك إحباطاً عامّاً تجاه هذه السياحة الفضائيّة، وتحويل "الأعلى" إلى ملعب للأغنياء، والأغنياء جداً، بينما نحن متروكون لمشاكلنا وموتنا، خصوصاً أنّ تصريح "لا يجب أن يكون هناك مليونيرية" يحمل في داخله انتقاداً عميقاً للنظام الرأسمالي، الذي أباح تراكم الثروة في يد رجل واحد، إلى حد أنّه أصبح قادراً على مغادرة الكوكب برحلة يصطحب بها شقيقه. الأهم، تراكم الثروة بهذا الشكل، من المؤكد أنّه يخفي وراءه تهرّباً ضريبياً واستغلالاً لا يمكن تصوّرهما، وهذا ما تكشفه تدريجياً وسائل الإعلام؛ إذ نقرأ دوماً عن استغلال شركته "أمازون" العاملين، وشروط العمل القاسية جداً، وغيرها مما يغير نظرتنا إلى هذه الشركة، لكنّ بيزوس غير مكترث، سيصعد إلى الفضاء ليوسع مداركه كإنسان!
يصف بيزوس الرحلة إلى الفضاء بـ"أعظم مغامرة". هي مغامرة، نعم!، لكن هل هي الأعظم؟ عادة ما تكون المغامرات العظيمة تلبية لهوس شخصي، أو محاولة لدفع البشرية بأكملها إلى الأمام، ومهما كانت سيئة السمعة، أو أتت كنتيجة لأسباب شديدة النفعية... إلّا أنّها، في النهاية، تترك أثراً في تاريخ البشريّة، مثل اكتشاف أميركا، وشطر الذرّة، واختراع المكدوس! لكن، أن تصعد مجموعة من الأغنياء إلى الفضاء للتأمل، أمر يشابه في سذاجته ونرجسيته المبتذلة الصعود إلى قمة جبل إيفرست، فهكذا تجارب شديدة الالتصاق بأجساد من اختبروها، ومهما كانت الحكايات التي ستنتج عنها، فهي لن تهمنا.
الامتعاض الذي يثيره بيزوس يرتبط بفكرة المغامرة؛ فعلى الأقل، الصعود إلى إيفرست، يحوي حكاية ودرساً عن التحمل والرغبة بمواجهة الصعاب، وتحقيق المنال وتجاوز قدرات الذات، وما إلى ذلك من ادّعاءات يلقيها علينا دجّالو التنمية البشرية؛ أما في حالة بيزوس والفضاء، فيمكن القول إنّ "المغامر" هنا لم يتحمل الكثير من المشاق، فهو لم يخترع الصاروخ، ولن يقوده، ولن يعود به إلى الأرض، هو سيتمرن قليلاً مثله مثل أيّ رائد فضاء، ثم سيتأمل في الفضاء الممتد، وسيعود ليخبرنا كيف تغيرت رؤيته للعالم.
المفارقة أنّ رواد الفضاء عادة، الحقيقيين منهم، أو أولئك الذين يصعدون للفضاء بالتزكية، هم فخر وطني، ويمكن لأيّ طفل أن يحلم بأن يكون واحداً منهم، لكن في حالة المليونيرية، فنحن أمام سلطة الفردانية للأقصى، تلك التي لا يمكن التطابق معها بسبب اختلاف الشروط، فالحلم والطموح بالصعود إلى الفضاء ليسا محرك الرحلة، بل النزوة، ومحاولة للتفوق على الأقران من المليونيرية وأصحاب المليارات.
ربما سيصعد بيزوس للفضاء ويعود، لن نطالب بمنعه أو وضعه تحت الإقامة الجبريّة، أو حتى مصادرة أمواله، لكنّ لسان حال الموقّعين على العريضة يقول: أرجوك يا جيف، لا تخبرنا بما رأيته هناك! ولا كيف تغيرت نظرتك إلى العالم، يكفينا "تنظيراً" من دون أيّ فائدة تعود علينا، نحن الفقراء، الذين ننظر إلى النجوم بوصفها أحلاماً وخيوطاً للمخيلة... اترك لنا هذه المتعة أرجوك، ولا توصلها لنا بصندوق إلى باب المنزل.