تعمل جماعات الضغط الصهيونية ومعها مشرّعون محافظون في الولايات المتحدة الأميركية، على الترويج بشكل مقصود لارتفاع وتيرة الأعمال والتصريحات المعادية للسامية في الغرب، في مساحات كانت تسيطر عليها حتى وقت قريب. نتحدّث هنا بشكل أساسي عن الجامعات، وبين المنظمات اليهودية التقدمية. فمنذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وتراكم المجازر بحق المدنيين الفلسطينيين، ارتفعت أصوات تنتقد دولة الاحتلال وجيشها، كما برزت أصوات جماعات يهودية مناهضة للصهيونية، طالبت بوقف إطلاق النار. أما في الجامعات فأقيمت احتجاجات وتظاهرات متضامنة مع فلسطين، كانت حتى سنوات قليلة ماضية مستحيلة.
هذا الواقع الجديد استنفر جماعات الضغط الداعمة للاحتلال الإسرائيلي في الولايات المتحدة، وأبرزها رابطة مكافحة التشهير ADL، التي تتهم بشكل عشوائي كل من ينتقد الاحتلال بمعاداة السامية. فما هي هذه الرابطة؟ وكيف تعمل؟ وما هو دورها في صياغة الخطاب الإعلامي الأميركي في ما يخص القضية الفلسطينية؟
بدايات رابطة مكافحة التشهير
يتعامل الإعلام والمجتمع المدني الأميركي مع رابطة مكافحة التشهير على اعتبارها منظمة مدافعة عن الحقوق المدنية ومناهضة للكراهية. لكن تاريخ الرابطة يكشف عكس ذلك، فمنذ خمسينيات القرن الماضي تتبنى الرابطة مواقف عنصرية ضد العرب والمسلمين وضد السود في الولايات المتحدة، كما اعتبرت خلال الحرب الباردة أن حركات مناهضة العنصرية ضد السود تهدد مستقبل الولايات المتحدة.
تأسست الرابطة عام 1913، وكان أحد أهداف عملها بشكل أساسي في الولايات المتحدة هو منع المهاجرين اليهود الروس (اليساريين بأغلبهم) من تشويه السمعة البرجوازية لليهود الألمان الذين استقروا في وقت مبكر في نيويورك بشكل أساسي، بحسب ما ينقله موقع Truthout الأميركي.
وغالباً ما تورّطت الرابطة في فضائح سياسية وإعلامية وأخلاقية، بفهوم العمل العام، أبرزها كانت فضيحة التجسس عام 1993 حين اكتشف مكتب التحقيقات الفيدرالي أن رابطة مكافحة التشهير قد تجسست وتسللت وحصلت على ملفات شرطة بشكل غير قانوني لآلاف المنظمات اليسارية والعربية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي.
موقف الرابطة المناهض لصعود اليسار العالمي جعلها منذ أكثر من قرن حليفاً استراتيجياً لليمين الأميركي، وهو ما ترجم بشكل واضح ومباشر خلال العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة. على سبيل المثال استعانت أخيرة العضوة في الكونغرس، المناصرة للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، إليز ستيفانيك بادعاءات الرابطة الكاذبة، للتحريض على المتظاهرين المطالبين بوقف إطلاق النار في غزة. الادعاء الأول هو أن هتاف "من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرة" دعوة إلى "إبادة جماعية لليهود". أما الادعاء الثاني فهو أن الطلاب اليهود باتوا غير آمنين في الجامعات بسبب وجود الطلاب وأعضاء في هيئة التدريس الذين يعارضون الاحتلال الإسرائيلي.
هذان الادعاءان استخدمتهما ستيفانيك في جلسة استماع في الكونغرس، ناقشت أداء رؤساء جامعات هارفارد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة بنسلفانيا و"فشلهم في حماية الطلاب اليهود في الحرم الجماعي".
رابطة مكافحة التشهير وصناعة الخطاب الإعلامي
منذ السابع من أكتوبر، وبعد عملية طوفان الأقصى، جنّدت الرابطة كل مواردها لدعم الرواية الإسرائيلية، ثمّ تبرير عدوانها على القطاع، وتصويره كحرب للحفاظ على اليهود في العالم. وفي ظل تدفّق الأدلة الموثقة بالصوت والصورة والشهادات، والتقارير الدولية، على تورّط جيش الاحتلال في جرائم حرب مرعبة في القطاع، تحوّلت ADL إلى مجرد بوق للرواية الصهيونية، من دون أي اهتمام بالحفاظ على صورتها كمصدر موثوق به، وإن كان منحازاً، للأخبار.
في 9 أكتوبر الماضي، وجه الرئيس التنفيذي للرابطة جوناثان غرينبلات، مباشرة على الهواء سؤالاً غاضباً لقناة MSNBC خلال استضافته في برنامج "مورنينغ جو": "من يكتب السيناريوهات في قناتكم، (حركة) حماس؟". وفي 15 أكتوبر الماضي، عاد مروّجاً لبروز دعوة عربية لتخصيص "يوم عالمي للجهاد"، وذلك بعد ترجمة خاطئة لمنشور على مواقع التواصل الاجتماعي. ثمّ روّج لسلسلة من الاتهامات التي تنزع الصفة الإنسانية عن أهالي قطاع غزة، مكرراً أكثر من 4 مرات أن "معاداة الصهيونية هي في الحقيقة الدعوة إلى الإبادة الجماعية". خطاب يتماهى مع الخطاب العام للرابطة، الذي يرى ويكرر عبر الموقع الإلكتروني الرسمي، أو في مؤتمرات صحافية، أن معاداة الصهيونية هي شكل من أشكال معاداة السامية، وبالتالي فإن أي انتقاد لدولة الاحتلال، ككيان استعماري يمارس الفصل العنصري، يدخل تلقائياً بالنسبة للرابطة في خانة معاداة السامية.
تدَهوَرَ خطاب الرابطة بشكل سريع إذاً، وأصبح مجرّد تكرار لعبارات تحرّض على التطهير العرقي في فلسطين، ليتصاعد مع مرور الأيام، وتراكم المجازر. على سبيل المثال امتلأ موقعها وحساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي بانتقادات وهجوم لليهود المطالبين بوقف لإطلاق النار، فاتهمت الاعتصام الذي نظمه 3 آلاف يهودي بينهم عشرات الحاخامات في مبنى الكابيتول، للمطالبة بوقف إطلاق النار، بالحدث "اليساري المتطرّف"، وهو طبعاً ما يدحضه الوجود الكبير لرجال الدين اليهود. كما طالبت الجامعات بالتحقيق مع مئات من مجموعات "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" (التي غالبًا ما تتألف من طلاب يهود وفلسطينيين وسود) موحية، من دون أي سند قانوني، أنهم ينتهكون قوانين مكافحة الإرهاب الأميركية.
دور سياسي للرابطة
منذ عقود، صوّرت رابطة مكافحة التشهير نفسها كمصدر موثوق به للمعلومات. مصدرٌ يقدّم الإحصائيات الدقيقة حول الأفعال والجرائم المعادية للسامية في الولايات المتحدة، لكن النظر إلى العمل الأوسع للرابطة، يظهر بشكل واضح أنها مجموعة سياسية، تقوم بعمل منظّم، وتروّج وترسّخ لخطاب محافظ متكامل الأركان، يعمل على محاصرة ومهاجمة السياسات التقدمية التي ظهرت في الولايات المتحدة عبر مختلف الحقبات، وآخرها الحراك الذي يقوده يهود وفلسطينيون أميركيون ضد الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
لكن هذه المرة يبدو أن تعاطي الإعلام بات أكثر حذراً مع ادعاءات الرابطة. إذ بدأ الصحافيون في فحص الحقائق وتحدي إحصائيات رابطة مكافحة التشهير حول "الكراهية ضد اليهود". ويبدو أن دور الرابطة بدأ يتراجع، باعتراف منها. ففي تقرير صادر عام 2017 أقرّت ADL بأن جهودها لتجنيد الدعم اليهودي لإسرائيل تفشل. وفي مكالمة مسربة أخيرًا، أعرب غرينبلات عن أسفه لفشل المنظمة في كسب دعم الأجيال الشابة لإسرائيل بغض النظر عن انتمائها إلى الأطراف اليسارية أو اليمينية.
وأمام كل ما سبق، بدأ جيل جديد من المنظمين والباحثين اليهود في الولايات المتحدة، بتنظيم بنية تحتية بديلة لتأمين الإحصاءات ورصد الجرائم والهجمات المعادية للسامية، لكن من دون فصلها عن سياق أوسع مرتبط بالعدالة العرقية والاقتصادية، وعلى رأس هؤلاء، الشبان والشابات الذين يقودون التظاهرات اليهودية المطالبة بوقف إطلاق النار، جنباً إلى جنب مع ناشطين فلسطينيين وعرب موجودين في الولايات المتحدة الأميركية.