رادو جود: لا تأمل الكثير من نهاية العالم

16 يوليو 2024
إيلينكا مانولاتشي في مشهد من فيلم جود الأخير (MUBI)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **فلسفته السينمائية**: رادو جود يستخدم السينما كدرع أثينا لعرض الانحرافات السياسية والاجتماعية بوضوح، مستلهماً من الأسطورة اليونانية. تخرج من جامعة بوخارست عام 2003 ويعتبر من أعمدة السينما الرومانية المعاصرة.

- **أعماله وتناول التاريخ**: تأثر بالواقعية الإيطالية والمونتاج السوفييتي، وناقش في أفلامه القصيرة الواقع الاجتماعي الروماني بعد ثورة 1989. فيلمه "أفيريم!" تناول العنصرية في 1841، و"I Do Not Care If We Go Down in History as Barbarians" تناول مذبحة أوديسا.

- **أسلوبه الراديكالي وأحدث أعماله**: يعتمد على كولاجات سينمائية تعكس التناقضات. فيلمه "Bad Luck Banging or Loony Porn" حاز على جائزة "الدب الذهبي"، وفيلمه الأخير "Do Not Expect Too Much from the End of the World" يعرض نقداً للرأسمالية والاقتصاد النيوليبرالي.

"شاشة السينما هي درع أثينا المصقول"، جملة أتت على لسانِ المخرج الروماني رادو جود (Radu Jude)، تُلَّخص تجربته الفكرية والسينمائية وفهمه الراديكالي للسينما وأدواتها. الدرع المذكور، حسبَ الأسطورة، كان إحدى الأدوات التي استخدمها البطل اليوناني بيرسيوس لقطع رأس ميدوزا (الحارسة المُرعبة التي تحول كُلَّ من يقع تحت ناظرها إلى حجر). على سطح الدرع المصقول انعكست صورة الميدوزا، فتابع بيرسيوس تحركاتها من دون النظر إلى عينيها مباشرة، حتى تمكن منها. ميدوزا ككناية نراها في أفلامه تمثّل الركود العبثي للمجتمع، وانحرافاته، والصورة المشوهة للشخصي بوصفه سياسياً. هذه الانعكاسات لا يمكننا أن نراها سوى على سطح درع أثينا/شاشة السينما.
تخرج جود من جامعة بوخارست عام 2003، قسم السينما. ولفهم أسلوبه الإشكالي والنقاط الفكرية لمشروعه، علينا النظر إلى فيلموغرافيا رادو جود المتنامية، أولاً كحوار عام وشخصي مع التاريخ، وثانياً كأحد أعمدة الأساس للسينما الرومانية المعاصرة.
بدأ رادو جود مسيرته السينمائية متأثراً بالواقعية الإيطالية ونظريات المخرج السوفييتي آيزنشتاين حول المونتاج. أخرج في بداياته مجموعة من الأفلام الروائية القصيرة، يناقش فيها الواقع الاجتماعي الروماني الواقع تحت وطأة تغيرات سياسية واقتصادية جذرية ما بعد ثورة عام 1989. لكل عنصر نراه أو نسمعه في الشريط السينمائي وظيفة واضحة وصريحة ليقدمها؛ الممثل والموسيقى والكاميرا والحوار والاقتباسات والجنرا المستخدمة، وكل ما يمكن أن يهضمه الفن السابع. الإطار الثابت يضعنا على مسافة وحيدة من جميع العناصر. لا يتورط المشاهد مع الشخصيات. تأتي النهاية في اللحظة نفسها التي تكتمل فيها وجهة نظر جود، من دون وعظ أو تعالٍ أو مباشرة.
جزء آخر من فيلموغرافيته المكونة حتى الآن من 28 عملاً، يحاور فيها تاريخ بلده، من دون انكارٍ أو استكبارٍ أو تشويه، وباعتقاد راسخ بأن عدم الاهتمام السياسي هو انحدار أخلاقي. بدأ رادو جود رحلة تاريخية لنبش الجوانب المظلمة والمسكوت عنها في تاريخ بلده، فيلمه "أفيريم!" الحائز على جائزة "الدب الفضي" لأفضل مخرج عام 2015، من نوع الغرب الأميركي بالأسود والأبيض. كان الخطوة الأولى في رحلة النبش تلك. رجع فيه إلى عام 1841، ليعيد صياغة صورة العنصرية الرومانية الموجهة ضد كل من هو غريب: الأتراك والروس والغجر واليهود وغيرهم.
مجموعة لا بأس بها من أفلامه ناقشت الفصل الأكثر دموية في تاريخ رومانيا، وصلت إلى ذروتها في فيلمه الشهير I Do Not Care If We Go Down in History as Barbarians الصادر عام 2018. يروي عبر طبقاته المتداخلة قصة بطلة العمل (مخرجة مسرحية) والنقاشات العقيمة التي اضطرت إلى الخوض فيها حتى تخرج مسرحية وتعرضها في ساحة العاصمة بوخارست. المسرحية تروي قصة مذبحة أوديسا التي نفذها الجيش الروماني عام 1941، وراح ضحيتها ما يقارب 380 ألف إنسان، غالبيتهم من اليهود.
قد يوحي ما سبق للقارئ بصورة مغلوطة عن جود. تقدمه كشاب مجتهد يناقش المواضيع بالدليل والوثائق والجمل الحاسمة والقناعات التي لا تتزعزع، بينما رادو جود في الحقيقة هو المخرج الذي يتأرجح على حبل الجنون في كل أعماله، ويرمي التناقضات لتتصادم أمام كاميراته بسورياليته التي تؤكد أن حياة الإنسان هي مأساة كوميديّة.
على هدى مقولة غودار: "يجب وضع كلّ شيء في فيلم"، يبني جود كولاجاته السينمائية، في فيلمه الصادر عام 2021، Bad Luck Banging or Loony Porn (الدب الذهبي لأفضل فيلم)، وهو من أكثر الأفلام راديكالية في السينما المعاصرة، يعرض في القسم الثاني من الفيلم قاموساً بصرياً يشمل كل العناصر التي يُضَمنها في أفلامه وتعبر عن قناعاته الشخصية، وتعكس التناقضات المحلية والعالمية كما يراها.
يُترجَم القاموس السابق ذكره بصرياً بحرفية أكبر في فيلمه الأخير Do Not Expect Too Much from the End of the World (لا تأمل الكثير من نهاية العالم)، ليثبت أن الحياة أكثر عبثية من سينماه. بطلة العمل هي جوّابة آفاق، يبدأ نهارها في السادسة صباحاً ولا أحد يعلم متى ينتهي. عليها بصفتها مساعدة إنتاج أن تُرشح أشخاصاً لديهم إصابات عمل لتقوم شركة متعددة الجنسيات بتصوير فيلم وثائقي دعائي حول معايير السلامة في العمل. نقضي معظم الفيلم مع أنجيلا (إيلينكا مانولاتشي) في السيارة وكأنه فيلم طريق. الصورة بالأسود والرمادي، وحالة أنجيلا العقلية غير مستقرة، بسبب الضغوط المادية وساعات العمل التي تصل إلى 16 ساعة في بعض الأحيان، والنقص الحاد في النوم.
"المبيعات والتوزيع هي أقذر جانب في صناعة الأفلام؛ هم أكبر المتطفلين". قناعة أخرى يحاول أن يثبتها المخرج في عمله، فعبر هذا الكولاج من تقنيات السرد والمراجع التاريخية والأدبية الدقيقة وغير الدقيقة، والنكات العبثية والحضور الطاغي لـ"تيك توك"، نسمع آراء مخرج الفيلم الوثائقي البائس حول السينما وتاريخها وعن تشارلي شابلن وباستر كيتون، إلا أن الواقع أعقد بكثير من طموحاته وآرائه.
في القسم الأخير، نتابع كواليس تصوير الدعاية الوثائقية التي تحاول أن تجمل الاستعباد الرأسمالي للعمال، وتحويل مصائبهم إلى إجراءات سلامة. اللافت في المشهد مقاربته الذكية حال الاقتصاد الروماني النيوليبرالي الذي مزق العاصمة، وعرض التاريخ الشيوعي للمعمل والعمال على صورة قضيب حديدي صدئ، وهو القضيب الذي أقعد العامل على كرسي متحرك. تدور هذه الأحداث تحت طبقة ثقيلة من النقاش العدمي عن تاريخ الدعاية، مقارنة بفيلم خروج العمال من المصنع للفرنسي لوميير.

سينما ودراما
التحديثات الحية

لأنجيلا شخصية افتراضية على "تيك توك" تُدعى بوبيتا، تستخدم فلتر لتتحول عبره إلى أندرو تيت، وتنطلق صارخة بأقذع ما يمكن أن يقال من تعليقات عنصرية وفاشية وذكورية وكارهة للنساء، يمكن أن نسمعها مجتمعة على لسان شخص واحد. تمرغ كرامة حراس الفضيلة بالقذارة، وتجسد الهستيريا الاجتماعية بالألوان الفاقعة للفلتر الذي تستخدمه. يقدم المخرج عبر شخصية البطلة المركبة "تيك توك" بوصفه سينما اليوم، إذ نرى عليه ما لا نراه في السينما.

المساهمون