تمر الساعات ثقيلة على شارع الحمرا الذي فقد بريقه تدريجياً على مر السنوات الماضية بعدما كان "روح بيروت" ومصدراً لتباهيها بنفسها بين العواصم العربية، وأصبحت تحاصره مظاهر الإهمال والأزمة الاقتصادية، فيما لم تعد مسارحه، ومكتباته، ومقاهيه الثقافية وحاناته، تنبض بالحياة مثلما اعتادت في ما مضى.
قاوم شارع الحمرا الحرب الأهلية التي استمرت 15 سنة، بل يقول كثيرون، انه انتعش خلال الحرب. لكن سنوات ما بعدها راحت تطيح برموز الشارع من متاجر ودور نشر وصحافة وسينما، بالإضافة الى المقاهي التي ظلت طويلاً تشكل ملتقى أدبياً وفكرياً وسياسياً للعديد من اللبنانيين والعرب.
وبالنسبة إلى كثيرين، لم يعد الشارع آمناً، وفقد الليل بريقه المعتاد وبالكاد يمكن العثور على حانة تعج بالرواد والموسيقى في وقت متأخر، فيما انتشرت ظاهرة التسول عند كل ناصية شارع وأمام المتاجر.
كما أصبحت أكوام القمامة مكدسة أمام المباني، والمتاجر بشكل منفر للمشاة العابرين وزوار الشارع الذي تغنى به شعراء، ووصفوه فيما مضى بأنه "شانزيليزيه الشرق"، أسوة بالشارع الباريسي الشهير برونقه وحيويته.
ويخشى اللبنانيون أن تكون تلك الأيام المزدهرة لشارع الحمرا قد ولت إلى غير رجعة، حيث تغرق البلاد في أزمة اقتصادية هي من بين الأكثر سوءاً على مستوى العالم، وصارت العتمة شبه الشاملة تخيم على الشارع، فيما تنفث مولدات الطاقة الكهربائية دخان المازوت في كل أحيائه، وأزقته لتزويد المتاجر، والشركات، والبيوت بالكهرباء، عوضاً عن عدم قدرة الحكومة على تأمينها للمواطنين والزوار، بالإضافة الى السياح الذين ما زالوا يحرصون على القدوم الى شارع الحمرا مدفوعين إما بحنينهم الى تاريخه، أو بالصيت الذائع عن الشارع.
جاء طلال سلمان (83 سنة) الى الحمرا في أوائل السبعينيات مدفوعاً بالنهضة الكبيرة التي كان يشهدها الشارع، ليكون مقراً لجريدة "السفير"، إحدى أبرز الصحف القومية العربية.
وفي الشارع المجاور، كان مبنى صحيفة "النهار" التي استهلت وجودها عام 1933 في الحمرا، قبل انتقالها في ما بعد نهاية الحرب الأهلية الى ساحة البرج في منطقة وسط بيروت المدمر، أسوة بالعديد من المؤسسات والشركات والمتاجر التي أغراها نشاط إعادة الإعمار للوسط التاريخي للعاصمة.
لم ينقل سلمان جريدته من شارع الحمرا. ويقول: "كان شارع الحمرا بمثابة روح بيروت، خاصة بعد إغلاق ساحة البرج في وسط المدينة بسبب الاقتتال الأهلي. في الحمرا ازدهرت الملتقيات الثقافية والأدبية والمكتبات والمقاهي التي يجتمع فيها الشعراء والأدباء والسياسيون من دول عربية عديدة، مثل الهورس شو والويمبي والمودكا وكافيه دو باري".
يضيف: "كنت تلتقي فيها شخصيات، من سورية مثل أكرم حوراني وصلاح البيطار، ومن فلسطين محمود درويش ومعين بسيسو، وعراقيبن من مختلف الانتماءات، وخليجيين من الكتاب والناشطين والمعارضين الذين وجدوا في الحمرا ملاذاً ومتنفساً لهم".
وساهم إنشاء الجامعة الأميركية في بيروت بمحاذاة البحر عام 1866 في "شارع بليس" الضيق نسبياً، في تزايد أهمية شارع الحمرا المحاذي له، ليتحول من زقاق صغير ومهمل يتميز بالبيوت السكنية والكثير من الأشجار في العقود الأولى من القرن العشرين، الى شارع تجاري رئيسي في العاصمة اللبنانية، ومركز للفن والإعلام والأدب، الى جانب حياة الليل التي استقطبت نجوماً كباراً من أنحاء العالم.
"شي أندريه" كان أحد أشهر حانات الحمرا منذ تأسيسه عام 1967، ولم يفقد حضوره حتى خلال سنوات الحرب الأهلية (بين عامي 1975 و1990)، وهو شاهد على حالة الاستقطاب التي كان بإمكان شارع الحمرا أن يمثلها بالنسبة الى كل لبنان.
كان آرتور شروانيان (50 سنة) يدير الحانة عند إغلاقها عام 2006، ويقول "زارها كثيرون بينهم المغني شارل أزنافور، والمغني والممثل جوني هوليداي، والنجمة بريجيت باردو والمغنية روزي آرمين.. وكان من رواده ايضاً الممثل اللبناني حسن علاء الدين المعروف باسم شوشو، والفنان اللبناني زياد الرحباني".
تغرق البلاد في أزمة اقتصادية هي من بين الأكثر سوءاً على مستوى العالم، وصارت العتمة شبه الشاملة تخيم على شارع الحمرا
قال شروانيان إن الحانة كانت أيضاً ملتقى للعديد من الفنانين اللبنانيين والعرب، بالإضافة الى السياسيين كرئيسي الجمهورية السابقين أمين الجميل، وكميل شمعون ووزراء ونواب".
عايش "شي آندريه" مراحل الحرب، وما قبلها وبعدها، وكان دليلاً على أن شارع الحمرا استفاد من خراب المتقاتلين في ساحة البرج ومحيطها، لاستقطاب الرواد والساهرين، مثلما كان خطف في السابق مظاهر الحياة الحيوية من "شارع بليس" حيث تقع الجامعة الأميركية المطلة على البحر، ما دفع حركة الإعمار إلى الجانب الآخر. كانت هناك حاجة الى مساحات أكبر للمقاهي والمكتبات والفنادق الصغيرة للطلاب والأساتذة والزوار والسياح من العرب والأجانب. ولم يعد "شارع بليس"، كافياً. ودارت الأيام على الشارع مجدداً، اذ شهد هجرة للحانات والمطاعم في السنوات العشرين الماضية، الى أحياء أخرى في بيروت كمنطقة الجميزة ومار مخايل.
يشير سلمان إلى أن شارع الحمرا راح يشهد تطوراً عمرانياً متسارعاً، خاصة منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث جاءه الفلسطينيون الأثرياء بعد حرب 1948، ثم أصحاب رأس المال من السوريين الذين لاذوا بلبنان من قوانين التأميم، بالإضافة الى الخليجيين الذين شهدت بلدانهم طفرات مالية بسبب النفط. كل هؤلاء استثمروا في شارع الحمرا الذي تحول تدريجياً الى منطقة تستقطب زوار لبنان بسبب الحياة التي كانت تدب فيه ليلاً ونهاراً، ولمتاجره المتنوعة، وحيويته الثقافية المتعددة، وخليطه الديموغرافي الذي يضم لبنانيين من كل الطوائف، إلى جانب الأجانب والعرب من دول عديدة.
وأضفى مسرح "سينما البيكاديلي" لمسة جمالية إضافية على شارع الحمرا، بعدما استضاف المغنية المصرية الفرنسية داليدا عدة مرات، بالإضافة إلى فيروز، سيدة الغناء الأولى في لبنان، وفرقة البولشوي الروسية الشهيرة، وأزنافور وغيرهم.
بعد الحرب، أغلق مسرح "البيكاديلي" ودور السينما الأخرى، كما أغلقت مقاهي "المودكا" و"كافيه دو باري" و"الويمبي" و"الهورس شو" أبوابها. وقال سلمان الذي أغلق جريدته عام 2017، "خسر الشارع الكثير من رونقه وإرثه تماماً كحال لبنان، ولم يعد مصرف العرب ولا مكتبة العرب ولا ملتقى العرب".
(أسوشييتد برس)