دخلت صناعة الموسيقى عهداً جديداً، دفعت المنتجين إلى ابتكار وسائل مختلفة لجني الأرباح منها. في العامين الأخيرين، اتجه الاستثمار إلى شراء حقوق الموسيقيين بعقود احتكارية. ففي صفقة قدرتها الصحف بـ200 مليون دولار، اشترت شركة هيبغنوزيس سونغز كابيتال، حقوق نجم البوب الكندي جاستن بيبر، بما يشمل بيعه أعماله كافة الصادرة قبل ديسمبر/ كانون الأول 2021، بحدود 290 أغنية، تتضمن ستة ألبومات وأغاني منفردة.
لكن خطوته أثارت بعض الانتقادات، كونها خطوة يُقدم عليها الفنانون الأكبر سناً، وغالباً من يشارفون على نهاية مسيرتهم المهنية. وعلى سبيل المثال، باع بوب ديلان حقوقه لقاء قرابة 300 مليون دولار لشركة يونيفرسال، بينما حصل بروس سبرينغستين على صفقة قياسية من بيع حقوقه لشركة سوني بنحو نصف مليار دولار.
وُلد هذا الخيار الاستثماري بسبب القاعدة الجماهيرية المستقرة على مدى عقود للأغاني ذات الشعبية المعروفة. ويراهن المنتجون والمستثمرون في حقوق الموسيقى على السجل الموسيقي للفنانين الكلاسيكيين باعتباره استثماراً أكثر أماناً.
على سبيل المثال، استثمرت هيبغنوزيس سونغز كابيتال قرابة ملياري دولار في الموسيقى منذ 2018، منها 600 مليون دولار في شراء حقوق موسيقية كاملة أو جزئية، لفنانين أشهرهم؛ شاكيرا ونيل يونغ وليونارد كوهين، إضافة إلى جاستين بيبر. وكان مدير شركة هيبغنوزيس سونغز كابيتال، ميرك ميركورياديس (Merck Mercuriadis)، قد قال إن موسيقى بيبر هي الموسيقى التصويرية النهائية لثورة البث.
يعود التنافس المحموم على احتكار حقوق الموسيقيين بدرجة أساسية إلى ثورة البث الإلكترونية التي غيرت من قواعد صناعة الموسيقى. لكن انبعاث هذا النوع من الاستثمار جاء عقب حالة العزل التي فرضها تفشي وباء كورونا. توقفت حفلات الموسيقى الحية، وفي المقابل تزايد الإقبال على منصات البث الموسيقية، كما هو حال منصات التسلية الأخرى.
سابقاً، خلال عصر الأسطوانات المضغوطة، كانت الموسيقى تُعرض على أرفف المتاجر. وفي الثمانينيات والتسعينيات، حققت شركات الإنتاج الموسيقي أرباحاً مهولة، ناتجة عن الفوارق بين كلفة تصنيع الأسطوانات الضئيلة، وثمن بيعها المرتفع. بالنسبة لغالبية الجمهور، كانت أسعارها تفرض عليهم اقتناء محدوداً من الإصدارات الموسيقية.
غير أن ما كانت تجنيه الشركات، يتركز خلال فترة زمنية محدودة من صدور منتجاتها الموسيقية، ثم ينخفض بدرجة كبيرة. تغير الأمر مع ظهور منصات البث الموسيقي عبر الإنترنت، مثل يوتيوب وسبوتيفاي وآبل ميوزيك؛ إذ أتاحت وصول المستمعين حول العالم إلى خيارات غير محدودة من الموسيقى.
صحيح أن ما تجنيه الأغاني يعتمد على عدد مرات الاستماع، وبالتالي لا تحقق على المدى القريب الفورة الاقتصادية نفسها، كما في عصر الأسطوانة، لكنها واعدة بتحقيق أرباح أكثر استدامة على المدى البعيد. ولدى المستثمرين في الحقوق الموسيقية تصور يفيد بأن الأعمال ذات الشعبية الكبيرة ستظل تحظى بعدد كبير من الاستماع لعقود.
وفي تلك المساحة الرقمية لبث الموسيقى، فإن أغاني قديمة تخترق القوائم الأعلى استماعاً، لتعود إلى مقدمة الاهتمام بالنسبة للجمهور حول العالم. وسبق لميركورياديس، مدير شركة هيبغنوزيس (مقرها بريطانيا)، القول إن الأغاني الناجحة يمكن أن تكون ذات قيمة أعلى من الذهب أو النفط.
لكن الإعلاء من شأن الموسيقى على طريقة ميركورياديس والمنتجين، يعني أنه سيجري التركيز على القيمة المادية للموسيقى، على حساب القيمة الفنية. وهكذا تستجيب الموسيقى كصناعة إلى أزمة متجذرة على صلة بالاحتكار. فأكبر ثلاث شركات منتجة للموسيقى، تحتكر أكثر من ثلثي سوق الموسيقى.
تسببت عملية القرصنة عبر الإنترنت منذ أواخر التسعينيات، بخسائر لشركات الإنتاج، وكادت تقضي عليها. فالجمهور يميل إلى الحصول على ما يريده عبر الطرق الأكثر سهولة. وبما أن منصات البث الموسيقي أصبحت البديل المناسب، استعادت شركات الإنتاج عملية تدوير الأموال بإبرام عقود معها.
في البداية، دغدغ عصر البث الخطاب الحالم بتعزيز دمقرطة الفن والحد من الاحتكار. لكن حيتان المال انبعثت في هذه السوق لتفترس بنهم كل فرصة جديدة لجني المال. وانفتحت سوق واعدة بنمو الأرباح، واتسع هاجس سيطرتها على سوق الموسيقى. ولم تكتفِ باستعادة احتكارها عملية الإنتاج الموسيقي، إنما كذلك تسعى إلى احتكار مستقبل الموسيقى.
يعتبر احتكار حقوق الموسيقيين ومسيرتهم بشكل كلي أو جزئي، غاية الشركات للاستحواذ على زمن الموسيقى. ففي السابق، كانت حدود التنبؤ في الاتجاهات الموسيقية قصيرة، فيما يوفر الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد عليه مجال البث، مساحة للسيطرة على اتجاهات لا تترك حيزاً للمصادفة أو المفاجأة. يعمل الذكاء الصناعي محللاً رقمياً يمكنه اقتراح قوائم تستند إلى توجهات الجمهور، وفي الوقت نفسه يمكنه أن يقترح على مستخدمي المنصات الموسيقية قوائم افتراضية وفقاً لاختياراتهم. وهكذا يجعل من الأجهزة المستخدمة أشبه بعلبة دي جيه سحرية، تنبعث منها سلسلة طويلة من الأعمال الموسيقية.
هكذا، يخضع المستمع لتوصية آلية، دائماً ما تقترح عليه خيارات مختلفة من الأغاني. وغالباً ما يحظى الفنانون الأكثر شهرة بالنصيب الأكبر من تلك الاقتراحات، بينما تغرق الأعمال الأقل نجاحاً وراء أكوام هائلة من المسارات الغنائية المختلفة. وغالباً ما تحظى الشركات المحتكرة لسوق الموسيقى بفرص أوفر من سواها في هذا العالم الافتراضي المأهول بملايين الأعمال الموسيقية.
غير أن هناك احتجاجاً يطرحه عدد من الموسيقيين حول تلك العقود الاحتكارية، والتي تلتهم معظمها شركات الإنتاج، بينما يحصلون على عوائد ضئيلة. لكن تلك المعادلة تكون أفضل بالنسبة للفنانين الذين ترسخت شهرتهم، خلافاً لمن هم في بداية طريقهم.
في سبتمبر/أيلول 2020، طالب مغني الراب الأميركي كانييه ويست (Kanye West) بالإفراج عن عقده مع شركة يونيفرسال. ونشر على صفحته في "تويتر" صوراً للعقود، قائلاً إنه يصلي حتى لا يبدو هذا هو شكل الغد. وكانت محاميته قد أشارت إلى أنه من المقرر له الحصول على نسبة تقدر ما بين 14- 25% من مبيعاته، وهي نسبة نموذجية. لكن مغني الراب اعتبر تلك العقود بمثابة "عبودية العصر الحديث".
من جانبها، خاضت نجمة البوب الأميركية، تايلور سويفت، معركة بسبب حقوق ملكية التسجيلات القديمة. واشتكت من أنها وقعت عقداً غير متكافئ مع شركة Big Machine Lable Group وهي في الرابعة عشرة من عمرها. وأنتجت لها ستة ألبومات، اشترى حقوقها المنتج الموسيقي سكوتر براون (Scooter Braun) في عام 2019.
ولدى تايلور تحفّظ إزاء براون؛ إذ قالت إنها في أسوأ كوابيسها لم تتصور أن يكون سكوتر هو الشاري لحقوق أعمالها. وبعد أن فشلت في إعادة شراء حقوق ألبوماتها القديمة، شرعت في إعادة تسجيلها، إذ أنجزت أول ألبومين لها، وهما Fearless وRed. وبمقتضى ذلك، ستكون هي المستفيدة من جميع عوائد النسخ الجديدة لألبوماتها القديمة.
وتُعد تايلور من الأصوات المهمة التي تدين احتكار الشركات لمجتمع الغناء الذي تمثله. وقالت إن إرثها الموسيقي وقع في يد سكوتر الذي يحاول تفكيكه. سكوتر منتج موسيقي لنجوم عدة، بما في ذلك جاستن بيبر الذي دافع عن منتجه. لكن بيبر يضع نفسه في مكان متعارض مع تايلور، بخضوعه للاحتكار بعد أن باع أرشيفه الموسيقي حتى ديسمبر/كانون الأول 2021.
وبالنسبة للنجوم الذين عقدوا صفقات احتكارية لحقوق سجلاتهم الموسيقية في أواخر مسيرتهم، فإنها أشبه بمكافأة نهاية خدمة. لكنها بالنسبة لمن لا يزالون في بداية مسيرتهم، قد تكون مخاطرة مستقبلية. فمنصات البث الموسيقي ما زالت واعدة بمداخيل مستقبلية أوسع.
وعلى غرار ما تتجه إليه الشركات العالمية، اشترت شركة روتانا حقوق الأرشيف الغنائي كافة للفنان السعودي محمد عبده في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. ووقعت الصفقة مع شركة صوت الجزيرة، وهي المنتج الرئيسي لأعمال محمد عبده، وبحضور صاحب الأعمال. وبحسب ما تناولته الأخبار، فالصفقة تُعد الأكبر من نوعها في العالم العربي. وسبق لمنصة أنغامي لبث الموسيقى، توقيع عقد مع الفنان عمرو دياب، بموجبه تحتكر بث أغانيه القديمة والمستقبلية. وبالتأكيد، سيقتصر احتكار بث أغاني الفنان المصري القديمة على التسجيلات التي أنتجها عبر شركة ناي التي يملكها. لكن بموجب تلك الصفقة، تخلى عمرو دياب عن حضوره على منصات أكثر انتشاراً، خصوصاً يوتيوب. بينما تسعى أنغامي من خلال احتكار أغانيه إلى استقطاب جمهوره.
ولا يعني الأمر أن الشركات لا تُخاطر في بعض العقود المُبرمة. لكن مخاطرتها تستند إلى ما تمثله الأغاني الناجحة من قيمة سوقية مستدامة. لم تكتف شركات الموسيقى المحتكرة، بالإفلات من عقال التهديد الذي شكله عالم البث الرقمي، بل ذهبت بعيداً. وها هي تسعى إلى تسمين نهمها لجوع تاريخي يُدعى الاحتكار. وتحاول أن تؤبد هيمنتها على الموسيقى، لكن قيمة الفن مُهددة، وفق اتجاه سوقي يُعيد الفنانين إلى حظيرة العبودية، وإن كانت مُصممة بتشريعات حديثة.