تبدو الكتابة عن هند أبي اللمع وعبد المجيد مجذوب نوعاً من الحنين إلى زمن الأسود والأبيض، فقد شكّلا ثنائياً لا يُنسى في الدراما اللبنانية التي شهدت صعوداً نادراً وانتشاراً كاسحاً في السبعينيات، قبل الحرب الأهلية وخلالها (1975 - 1990)، وكانا من فرسانها، إذ اشتركا في بطولة خمسة مسلسلات، جعلت منهما نجمين في منطقة بلاد الشام على الأقل. وفي الأردن، يمكن القول إنه ما من فنان نافسهما على الصدارة باستثناء دريد لحّام، وسميرة توفيق التي كانت غالبية الجمهور تظنها أردنية.
مع نشوب الحرب الأهلية، انتقلت هند أبي اللمع وزوجها أنطوان ريمي وعبد المجيد مجذوب، وفنانون آخرون، إلى الأردن لفترات قصرت وطالت. وهناك، تبناهم التلفزيون الأردني، وأنتج أعمالاً درامية وسهرات تلفزيونية لكثير منهم، وأنتج للثنائي أبي اللمع ومجذوب فيلماً تلفزيونياً يعتبر نادراً كونه لم يُبث سوى مرة واحدة، وظل مجهولاً لدى قطاع كبير من المشاهدين العرب، بل ولنقاد الدراما والسينما أيضاً.
أُعيد اكتشاف الفيلم وبثه في ذكرى مرور عشرين عاماً على رحيل أبي اللمع (1943 - 1990)، أي عام 2010، ضمن برنامج كان يعده ويقدمه الإعلامي زافين قيومجيان على قناة المستقبل، وهو "الليل الطويل" (1976)، من إخراج أنطوان ريمي، وكتب القصة والسيناريو والحوار له أنور تامر الذي تقول النُتف القليلة التي نعثر عليها على محركات البحث عنه إنه كتب قصة وسيناريو عدد قليل من الأعمال الدرامية، من بينها مسلسلا "حوش المصاطب" و"جواد الليل".
ولا يُعرف ما إذا كانت قصة الفيلم التلفزيوني النادر للثنائي أصلية أم مأخوذة عن نص أجنبي، قد يكون مسرحياً، خاصة أن بنية القصة في الفيلم تبدو أقرب إلى المسرح منها إلى السينما أو الدراما التلفزيونية، وفكرتها تجريدية وتكاد تكون أوروبية أكثر منها عربية.
تؤدي أبي اللمع في الفيلم دور مدرّسة موسيقى تعول شقيقها الجامعي، وتقودها الصدفة إلى العمل سكرتيرة خاصة في مزرعة في منطقة نائية لدى ثري يريد أن يتوثق من ماضي أسرته، ومما إذا كانت الأراضي التي ورثها عن جده وصلت إلى الأخير عن استحقاق، وليس بعمليات تحايل غامضة. تصل المدرسة إلى المزرعة وتتعرف إلى الثري الوسيم زياد عز الدين (عبد المجيد مجذوب) الذي يضع بين يديها مجموعة أوراق ووثائق ومراسلات تخص جده لتحليلها. وبينما يبدأ بالانجذاب إليها، يزداد فتورها تجاهه مع تقدمها في عملها، فقد اكتشفت حقيقة جده وثروته. ليست المفاجأة هنا، بل في كونها وشقيقها هما الورثة الحقيقيون للمزرعة والأراضي الشاسعة، وتعرف صبا (أبي اللمع) ذلك من خادم الجد الذي يرفض طلبها بألا يخبر زياد عز الدين بهذه المعلومة، لأنه لا يجوز أن يستمر الأخير في العذاب والشك.
ينتهي الفيلم بما يشبه السؤال الذي لا جواب له، فالثروة ليست هي المهمة بل المحبة، والبطل ضحية تُحَب لبراءته. تحبه المدرّسة الموسيقية رغم علمها بأنها هي التي تستحق الثروة وليس هو، والخادم الذي شهد عملية التحايل التي أطاحت بالورثة الحقيقيين.
تبدو الفكرة ساذجة وقائمة على المصادفات "المُحكمة" والمتسلسلة. ومن المفيد هنا أن نعرف أن الحوار في الفيلم كان بالفصحى، ما يرجح فكرة اقتباس قصته، وأن فكرته تجريدية ومسرح الحدث محدود بين غرفتين ومكتب وبضعة مشاهد يفترض أن تتم في الخلاء، وهذا يرجح فكرة أن يكون الاقتباس عن إحدى المسرحيات، أو بتأثر منها، بل إن الإخراج نفسه تلفزيوني وبالأسود والأبيض، رغم أن تقنيات التصوير السينمائي بالألوان كانت قد دخلت المنطقة قبل زمن إنتاجه بسنوات.
على الرغم من ذلك، فثمة تلك المتعة النادرة في أن تستمع إلى صوت عبد المجيد مجذوب. صوته بالغ الجمال والفرادة. صوته الذي يتفوق على أدائه التمثيلي. صوته الذي قاده إلى المتنبي وامرئ القيس، ودفع جهات ثقافية، مثل مجمع أبوظبي الثقافي، للاستعانة به لقراءة وتسجيل ديوان المتنبي كله. صوته الذي جعلنا نحب هند أبي اللمع، ليس لأن عينيها جميلتان مثلاً، بل لأنها هنا تُحب، وبالأسود والأبيض تحديداً، وبكلمات تُنطَق كأنها تستدرج العصافير إلى فخاخها في حقل قرنبيط.