يشبه الانتقال من تغطية قناة مثل "التلفزيون العربي" أو "الجزيرة" للعدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزّة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلى تغطية قناة "فرانس 24" (فرنسية حكومية) للعدوان نفسه، الانتقالَ من مُشاهدة شريطٍ وثائقيّ إلى مُشاهدة نسخة "منقّحة" و"مُراجَعة" منه، هذا إن لم تكن مشوَّهة.
"تنقيحٌ" يبدأ من العنوان الذي تضعه "فرانس 24" لما يجري على الأرض، إذ بدلاً من الحديث عن عدوان على غزّة، تفضّل القناة الفرنسية الناطقة بالعربية، وكذلك موقعها الإلكتروني، تعبيرَ الحرب "في" غزّة، أو "الحرب بين حماس وإسرائيل"، وهما اختياران لغويّان يسطّحان الحقيقة ويقتطعان منها، كلٌّ على طريقته.
فالصياغة الأولى تختصر غزّة بكونها مسرحَ الحرب فقط، لا الأرض المعتدَى عليها وعلى أهلها. كما أنها، برفضها استخدام "الحرب على"، تُغفل فعل الاعتداء ومعه هوية المعتدي. أمّا الصياغة الثانية، فتضع، بكلّ بساطة، القاتل والمقتول، المعتدِي والمُعتدَى عليه، في خانة واحدة، رغم عقودٍ من الاستعمار الاستيطاني ومئات الآلاف من الحقائق والوقائع والوثائق المكتوبة والمصوّرة التي تفنّد مساواةً كهذه.
ويشمل المعجم الذي تتبنّاه المحطّة الفرنسية إعادةَ تسميةٍ لكثيرٍ ممّا هو مألوفٌ للمُشاهِد العربي أو للمطّلع على تاريخ القضية الفلسطينية. فالاحتلال والاستعمار يتحوّلان إلى مجرّد "صراع" أو "نزاع" بين "طرفين" يوضَعان في خانة واحدة، مرّةً أُخرى. في حين يصبح اجتياح غزّة بالدبّابات والآليات والفيالق "مواجهةً" و"اشتباكات بين حركة حماس وإسرائيل"، أو "عمليةً عسكرية"، وهو التعبير الذي يحبّذ استخدامه جيش الاحتلال في بياناته وعلى لسان الناطقين باسمه.
كما لا تحبّ القناة القول إن الغزّيين هُم "أهلُ" غزّة وشعبُها أو أصحابها، بل هُم عندها "سكّان" المدينة أو القطاع فحسب. وحين تُدمَّر منازلهم ويُشرَّدون على يد الاحتلال الإسرائيلي، فإن مذيعي "فرانس 24" يتحدّثون عن "نازحين" (صيغة فاعل تشير إلى أنهم هُم أصحاب القرار) وليس عن "مهَجَّرين" (صيغة مفعول كان في إمكانها، لو استُخدمت، أن تُحيل إلى فعل التهجير الذي ترتكبه قوات الاحتلال الإسرائيلي).
بخياراتها التحريريّة هذه، تمشي المحطّة ضمن المسار الذي رسمه الموقف الرسمي الفرنسي لوسائل الإعلام التي تموّلها الدولة بشكل كامل، ومنها "فرانس 24" بلغاتها الثلاث. سياسة تحريرية ترفع لافتة "الحيادية" في تغطيتها، لكنها تُعيد، في الواقع، إنتاج قسمٍ من المعجم الإسرائيلي حول العدوان، على حساب المعجم الفلسطيني. تماماً كما هو الحال مع الموقف السياسي الرسمي الذي يدّعي الحيادية في مكان، ويعتبر، في مكانٍ آخر، مناِقضٍ، أن حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل "دفاعٌ عن النفس" وأن المقاومة "منظّمة إرهابية".
غير بعيد عن هذه الازدواجية، يمكن لمَن يحلّل تغطية القناة للعدوان على غزّة أن يلاحظ حالةً من القلق، إنْ لم نقل الفصام، تعتري قسماً كبيراً من أدائها منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ليس الحديث هنا عن انتقال البثّ من برنامج في علوم الأحياء والطبيعة بعنوان "على هذه الأرض" (اقتباس من محمود درويش) إلى تقارير مصوّرة تستخدم فيديوهات يوزّعها إعلامُ جيش الاحتلال ويظهر فيها قصفٌ وتدميرٌ لهذه لـ"هذه الأرض" التي يتكلّم منها وعنها الشاعر: أي فلسطين، بل الحديث هنا عن حالة صحافيي القناة، أو عن قسم منهم على الأقل.
نجد أنفسنا أمام مذيعين ومقدّمي برامج يزِنون جُملهم ويتلعثمون أكثر من أي وقتٍ مضى، باحثين، كما يبدو، عن الكلمات التي تتناسب مع سياسة القناة أكثر مما تتناسب مع آرائهم ومشاعرهم تجاه الوقائع التي يعلّقون عليها.
رقابةٌ على الذات يبدو أنها قد تضاعفت منذ آخر جولة "عقوبات" قامت بها إدارة القناة، في مارس/ آذار 2023، حيث طردتْ وأوقفتْ عن العمل أكثر من صحافي عربي اعتبرتْ أنه نشر تعليقات "معادية للسامية" على وسائط التواصل الاجتماعي، وهي التهمة الجاهزة التي باتت تلصق بأي شخص يدين الجرائم الإسرائيلية ويتضامن مع الفلسطينيين.
ضمن هذه الترسيمة، تَحوّل الضيوف والمحلّلون الخارجيون إلى المنفذ الوحيد الذي يمرّ عبره كلامٌ عادلٌ عن القضية الفلسطينية. وتحوّلت هوية المدعوين، وموضوع النقاش، وطبيعة الأسئلة التي يطرحها الصحافيون، إلى المساحة شبه الوحيدة التي يمكن لبعض موظّفي القناة أن يفلتوا عبرها من السياسة التحريرية التي يفرضها عليهم عملهم في وسيلة إعلام فرنسية رسمية.