- واجهت الإذاعة تحديات تتعلق بجودة الأداء والفرز الصارم للتلاوات بسبب التوسع في ساعات البث، بينما كانت الإذاعات الأهلية قبلها تعاني من ابتذال وخروج عن اللياقة.
- فن التلاوة شهد تحولات مع مرور الزمن، حيث تراجعت جودة الأصوات والأداء، وظهرت مظاهر الانحدار مثل استخدام مقامات غير تقليدية وجمل موسيقية من الأغاني، مما يعكس أزمة في هذا الفن العريق.
لم يكن غريباً أن يحتفي هواة فن التلاوة بالذكرى الستين لانطلاق بث إذاعة القرآن الكريم القاهرية. ليس لأنها أعرق الإذاعات الدينية وأوسعها انتشاراً فحسب، ولكن لكونها مثلت عبر ستة عقود المنبع الرئيس لتلاوات أعلام القراء المصريين، من أصحاب الأصوات المهمّة، والفن الأدائي ذي الأبعاد الموسيقية الرفيعة.
قبل انطلاق تلك الإذاعة، كان فن التلاوة يحظى بوقت محدود في مختلف محطات الراديو المصرية، فلما أنشئت إذاعة القرآن عام 1961، بدأت ببث التلاوات لمدة عشر ساعات يومياً، ثم زادت فترات البث تدرجياً حتى أصبحت على مدار الساعة من دون انقطاع.
ورثت المحطة القرآنية من الإذاعة الأم (البرنامج العام) ثروة هائلة من تسجيلات كبار القراء، الذين اختيروا بعناية فائقة منذ تدشين الإذاعة الحكومية المصرية عام 1934. لكن كثيرين من المهتمين بفن التلاوة، يرون أن إنشاء إذاعة القرآن، والتوسع في ساعات البث لتشمل اليوم كله، أدّيا إلى ضعف قيم الفرز الصارمة التي حافظت عليها الإذاعة المصرية لنحو ثلاثة عقود، وأن حالة التردي والتراجع التي يشكو منها "السميعة"، بدأت على استحياء بعد سنوات قليلة من انطلاق الإذاعة المخصصة لهذا الفن، ثم تفاقمت تدريجياً حتى وصلت إلى مشهد بائس، يتمثل في تكرار إيقاف بعض الشيوخ القراء، بسبب أخطاء لا يمكن قبولها، وظواهر بدت غريبة على ما اعتادته الجماهير من حسن الصوت ووقار الأداء، بل وحسن السمت والمظهر.
عرفت مصر الإذاعات الأهلية منتصف العشرينيات، ومنها راديو فؤاد، وراديو فاروق، وراديو فوزية، وغيرها، غلب على بث هذه الإذاعات الابتذال والخروج عن حدود اللياقة الاجتماعية. وحاولت الحكومة كبح جماحها، واشترطت الحصول على تراخيص قبل بدء البث الإذاعي، لكن عندما انطلقت الإذاعة الحكومية المصرية، تشجعت الحكومة، وبادرت بإلغاء كل تلك الإذاعات.
ولدت الإذاعة الحكومية عملاقة في يومها الأول. افتُتحت بصوت الشيخ محمد رفعت، وتوالت بعد تلاوته الفقرات الفنية بصوت أم كلثوم وصالح عبد الحي ومحمد عبد الوهاب. ومن هذا التاريخ، بدأ دور الإذاعة في "الفلترة" من خلال وضع قواعد صارمة وشروط صعبة ومرشحات دقيقة لكل صوت سيسمعه الناس عبر الراديو. وكان الشيوخ القراء في مقدمة أولويات الاختيارات الإذاعية المنتقاة.
وخلال عقد الثلاثينيات استمعت الجماهير إلى أصوات محمد رفعت، وعبد الفتاح الشعشاعي، وعلي محمود، وأبو العينين شعيشع، ومحمد الصيفي، وعلي حزين، وطه الفشني، وأحمد سليمان السعدني، وعبد الرحمن الدروي، ومحمد فريد السنديوني، وعبد العظيم زاهر، ومنصور الشامي الدمنهوري.
وفي الأربعينيات، ظهر الشيوخ كامل يوسف البهتيمي، ومحمود خليل الحصري، ومحمود عبد الحكم، ومصطفى إسماعيل، ومحمود علي البنا، ومحمد حسن النادي. واستهل عقد الخمسينيات بصوت عبد الباسط عبد الصمد. ختمت هذه الطبقة العالية من القراء بالشيخ محمد صديق المنشاوي، الذي اعتمد إذاعيا عام 1954. ومنذ ذلك التاريخ، وإلى اليوم، توقف المدد العبقري من أعلام القراء، أصحاب الأصوات الكبيرة، والأداء الإبداعي، والشخصية الفنية المستقلة.
نعم، جاء بعد ذلك قراء ممتازون، لكنهم ليسوا بهذا المستوى بأي حال، ثم توقف ظهور الممتازين، وانخفض منسوب الجيدين. ومع رحيل الكبار من القدماء، ووهن من امتد به العمر منهم، اتسعت الساحة الإذاعية قليلاً لمستوى آخر من القراء، لا هو من العباقرة الاستثنائيين، ولا من الممتازين. أمسى "العاديون" سادة الموقف: قارئ عادي، صوته مقبول، وأداؤه سليم، لا يزعج ولا يطرب، لا تعرفه الجماهير الواسعة، ولا يعرف اسمه إلا المنقطعون لاستماع التلاوات، لا بسبب أي ميزة فيه، ولكن بسبب تكرار اسمه في الراديو.
صحيح أن القراء القدماء لم يكونوا بمستوى واحد، وقد رتبتهم الإذاعة ضمن فئات، لكنهم كانوا جميعاً أعظم أصواتاً وأداءً من الأجيال التي تلتهم. ولأن هذا الرعيل من القراء العباقرة انتهى مدده وختم ظهوره باعتماد الشيخ محمد صديق المنشاوي، ولأن الفرز الإذاعي في انتقاء القراء الممتازين والجيدين استمر حتى تدشين مبنى الإذاعة والتليفزيون عام 1960، فقد اصطلح المهتمون بفن التلاوة على تسمية كبار القراء بـ"جيل الشريفين"؛ أي الجيل الذي قرأ القرآن على الهواء مباشرة من مبنى الإذاعة القديم في شارع "الشريفين" وسط القاهرة.
وجاء هذا الاصطلاح ليبين الحد الفاصل بين أصوات أعلام القراء من الاستثنائيين والممتازين، وبين أصوات من جاؤوا بعدهم من الجيدين، والعاديين. بدأ التدهور بطيئاً وتدريجياً. انتظرت الجماهير عقداً كاملاً بعد ظهور الشيخين عبد الباسط عبد الصمد ومحمد صديق المنشاوي، من دون أن يلوح في سماء فن التلاوة نجم بهذا المستوى من السطوع واللمعان. وجاءت مرحلة الممتازين والجيدين لنحو عشر سنوات تقريباً، أي ما بين 1955 و1965.
لاحقاً، لم يعد يظهر إلا "العاديون"، والقارئ العادي هو شيخ صوته لا بأس به، من دون تألق، وأداؤه متزن من دون إبداع. ويمكن أن نمثل لهؤلاء القراء العاديين، بالشيخ إبراهيم المنصوري الذي اعتمد إذاعياً عام 1962، والشيخ محمود حسين منصور الذي اعتمد عام 1963. لا يجد المستمع في هذين القارئين ما يُنتقد أو يُرفض، صوتان مقبولان، وأداء رصين، يعتمد على جمل نغمية حيادية لا تميزهما عن زمرة قراء عصرهما.
لكن، بعد أن انتصف عقد الستينيات، بدأ يلوح في الأفق أول انحراف عن السمت الموروث، والنمط الكلاسيكي القديم، من خلال بعض الشيوخ الذين استطاعوا أن يجتازوا اختبارات الإذاعة، ويمكن أن نمثل لهذا الانحراف بمظهرين: الأول، في طبيعة الصوت، فللمرة الأولى تسرب إلى الإذاعة أصوات يغلب عليها سمت ريفي، يختلف عن السمت الحضري المديني، وكان المثال الأبرز لهذا اللون الشيخ شعبان الصياد الذي لم يتميز صوته إلا بالقوة والجهارة، مع مسحة ريفية واضحة، تضادت مع الأداء الحضري، فانحاز الرجل -لا سيما في المحافل الجماهيرية- إلى نمط غريب من الجمل ذات الطابع الشعبوي، البعيد كل البعد عن الموسقة الكلاسيكية المعتادة في التلاوة المصرية. والمظهر الثاني للانحراف، تمثل في محاولات بعض القراء مخالفة أساليب "القفلات" المحكمة التي كانت دائماً من أهم ما يميز فن التلاوة في مصر.
وكل تسجيلات كبار القراء منذ بدأت التسجيلات اتسمت بقفلات بالغة الإحكام، سواء منها ما يعرف بالقفلات "الحراقة"، أو القفلات الهادئة، وسواء تلك القفلات التي اشتهر بها قراء معينون، أو القفلات الشائعة التي كان يستخدمها كل القراء. كانت كلها تأتي في قوة ومتانة وإحكام. ولعل الشيخ راغب مصطفى غلوش أول من بدأ مخالفة هذا النمط الموروث، متورطاً في قفلات سائلة، لا تعطي المستمع الحصيف شعور الاستقرار أو الطرب. والقفلة هي عنوان الأداء الكلاسيكي الطربي، فالجملة النغمية -حتى وإن كانت جيدة- تفقد كثيرا من جمالها إذا لم تحظ بنهاية منطقية.
مع دخول عقد السبعينيات، أصيب فن التلاوة في مصر بما يشبه الزلزال، حينما اعتمدت الإذاعة القارئ الشهير الشيخ محمد محمود الطبلاوي الذي جاء بطريقة أدائية يقطع بها صلة هذا الفن بجذوره العميقة الراسخة: قارئ صوته ديوان واحد، يكرر عدداً من الجمل الطويلة المتلاصقة مستعرضاً طول نفسه، بنغم مفرط في إرضاء الفئات الشعبية غير المتمرسة بالاستماع للقدماء، وكان من حظ الرجل أن انطلاقته جاءت مع ظهور "الكاسيت" وانتشاره. أصبح لجمهور الكاسيت قارئ أوحد، يدوي اسمه في كل مكان في مصر، وتنافس شرائطه في أعداد توزيعها شرائط المطرب الشعبي الصاعد صاروخياً أحمد عدوية.
وفي السبعينيات أيضاً، بدأ الضعف الواضح يهيمن على لجان اختبار القراء، ليس فقط بضعف أشخاصها، ولكن بالتراخي المتسارع في تطبيق قواعد الانتقاء الصارمة، وقيم الفرز التي لا تجامل ولا تحابي، ولا تسمح لفاسد بأن ينتفع من فساده. كان هذا الضعف الباب الأكبر لكل ما أصاب فن التلاوة في السنوات والعقود التالية، وأصبح في حكم المؤكد أن فن التلاوة دخل أزمة بالغة العمق.
مع دخول عقد الثمانينيات، كان الأداء الشعبي "السوقي" قد هيمن على "دولة التلاوة"، وسرادقات العزاء والمحافل، حتى لو كان القارئ معتمداً إذاعياً. وأصبح رموز هذا الأداء قادرين على الوصول إلى الإذاعة والتلفزيون، لتسمعهم الجماهير في تلاوات الفجر وصلاة الجمعة والاحتفالات الدينية. مات معظم القراء الكبار، ومنع الوهن صوت من بقي منهم. ثم تسارعت وتيرة الانحدار في التسعينيات.
ومع دخول الألفية الجديدة بدا "المشهد الإقرائي" عبثياً، واستخدم المشايخ الجدد مواقع التواصل للترويج لأنفسهم، وأصبح من النادر أن نجد واحداً منهم من دون لقب، يروج له السماسرة ومصورو المحافل والسرادقات، رغم أن كثيراً من هذه الألقاب يضفي طابعاً كاريكاتيرياً ساخرا يزري بصاحبه.
لا ريب أن العنوان الجامع لقراء عصر الإنترنت هو "شيوخ الألقاب". لكن المهزلة الساخرة اكتملت حين قرر بعض القراء من أصحاب الأصوات المنفرة المزعجة، والأداء بالغ الركاكة والابتذال، بل والضعف البين في مخارج الحروف وأحكام التجويد والوقف والابتداء، أن يدشنوا ويشرفوا على مراكز لتدريب القراء الجدد، أي أنهم لم يكتفوا بأن يكونوا أبرز تجليات الأزمة، بل قرروا توريثها إلى جيل جديد.
تتعدد مظاهر الانحدار الحالي في فن التلاوة، من انقطاع الإبداع، إلى ضعف الأصوات، وصولاً إلى تعويض الضعف الأدائي بحركات جسدية تمثيلية. لكن الإشارة مهمة إلى مظهرين خطيرين من تلك المظاهر: الأول، التوسع المطّرد في استخدام مقام الكرد، وهو مقام لم يكن يوماً ضمن حزمة المقامات المستخدمة في التلاوة الفنية المصرية، وبالطبع، فإن هذا حكم أغلبي، لا تلغيه الاستثناءات القليلة، كأن يقول أحدهم إن الشيخ علي محمود قد قرأ به عدة أسطر من تسجيل شهير لسورة الأنفال، لأن هذه مجرد دقائق بين آلاف الساعات التي خلفها كبار القراء.
ولا أن يقول آخر إن الشيخ محمود محمد رمضان (رحل عام 1981) قرأ به كثيراً، لأن الرجل استطاع أن يقدم منه صيغة مقبولة ومناسبة لصوته، ولأنه ليس مرجعاً في أساليب الأداء الكلاسيكية، ولا يجب أن ينسى المُهتم أن رمضان التحق بالإذاعة عام 1972. خلال السنوات القليلة الماضية كانت التجربة خير شاهد، ففي كل مرة يتلو فيها أحد القراء المعاصرين بمقام الكرد لا يخرج منه إلا بعد أن يتورط في جمل شديدة الركاكة والابتذال، بل قد يصل الأمر أحياناً إلى نشاز واضح.
والمظهر الثاني للتدهور والانحدار يتمثل في استخدام كثير من القراء المعاصرين جملاً موسيقية مأخوذة من ألحان أغنيات شهيرة لأم كلثوم أو عبد الحليم حافظ أو فريد الأطرش، وأكثرها جمل ذات طابع حداثي تتعارض مع كل ما يمثله فن التلاوة من كلاسيكية ورصانة. عبْر أكثر من قرن، كان الشيوخ القراء والمنشدون الكبار مصدر إلهام لأهل الغناء والتلحين، ومن رحم الفن "المشيخي" خرج أعلام الموسيقى والغناء في مصر، والسلوك الحالي للقراء يقلب هذه القاعدة، بجعله الغناء الدنيوي مصدرا لتنغيم التلاوة القرآنية.
لم تعد الأجيال الجديدة ترى على الهواء إلا أصحاب الأداء الشعبوي الريفي، واعتقد كثير من "سميعة القرى" أن هؤلاء المشايخ الذين تنقل الإذاعة تلاوتهم المباشرة، ويظهرون على شاشة التلفزيون هم كبار القراء وأعلام الفن. وفي الحقيقة، هم ممن كان لهم دور كبير في التدهور السحيق الذي يعيشه فن التلاوة العريق. في القرى، يمثل سماع ابن القرية في الراديو ومشاهدته على الشاشة حدثاً كبيراً، ومصدر فخر واعتزاز، وكل هذه العوامل كانت حواجز عالية بين الأجيال الجديدة من جمهور الأرياف وبين القراء المؤسسين من أصحاب الفن الرفيع.
لذا، لم يعد عجباً أن يجد متابع مواقع التواصل الاجتماعي نقاشاً حاداً بين شابين من هذا الجمهور، يتجادلان حول الأحق بزعامة القراء بعد الشيخ محمد رفعت: أهو الشيخ الشحات محمد أنور أم الشيخ سيد متولي؟ ليعترض ثالث قائلاً: لا هذا ولا ذاك، بل الشيخ محمد الليثي يفوقهما، ويفوق محمد رفعت. وهذا من أكبر الدلائل على أن الأزمة قد بلغت مستويات حادة من العمق، إلى درجة أنها شوهت الوجدان، ثم اجتثت الآذان.