في رحيل فؤاد شرف الدين... سينما لبنانية تجارية ذات حسّ وطنيّ

28 مايو 2024
يعد أحد أبرز ممثلي سينما ثمانينيات الحرب الأهلية اللبنانية (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فؤاد شرف الدين، الممثل اللبناني، لعب دورًا محوريًا في تطوير السينما اللبنانية خلال الثمانينيات، مقدمًا أفلامًا تجمع بين الجودة والتجارية، وتعبر عن رفض الحرب الأهلية وتدعو لاستعادة دور الدولة.
- أفلامه، مثل "الممر الأخير" و"حسناء وعمالقة"، تحتل مكانة مهمة في الذاكرة اللبنانية، مسلطة الضوء على القضايا الاجتماعية والوطنية، على الرغم من الانتقادات لبعض جوانب الإنتاج.
- يُعتبر شرف الدين رمزًا للسينما اللبنانية في زمن الحرب، مقدمًا أعمالًا تجمع بين الإثارة والمعنى، وتسعى للتعبير عن هوية وطنية متجددة، مؤكدة على أهمية الفن كوسيلة للمقاومة والتعبير.

ميزات عدّة تَسِم أفلاماً لبنانية يمثّل فيها فؤاد شرف الدين (1941 ـ 2024): مساهمة في إنجاز نمطٍ سينمائي لبناني، يوصف بالتجاري المبسّط، من دون بلوغ مرتبة الاستهلاك البحت؛ ارتباطٌ بالحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، ليس لأنّ غالبيتها مُنتجةٌ في ثمانينيات القرن الـ20 فقط، بل لأنّ فيها نَفَساً وطنيّاً يريد قولاً مناهضاً للحرب وطوائفها وأحزابها ومليشياتها؛ إيجاد توازن بين التجاري و"الرصين في جدّيته"، كما في "السينما المؤجّلة، أفلام الحرب الأهلية اللبنانية" (مؤسّسة الأبحاث العربية، بيروت، 1986) لمحمد سويد، الناقد والمنتج والمخرج اللبناني. أمّا العلاقة بين النوعين فمُعقّدة، إذْ يُمكن اعتبار التجاري (وفيه استهلاكي مُسطّح أيضاً) أحد دوافع الاستمرار في إنتاج أفلام "رصينة في جدّيتها"، رغم أنّ هذه الأفلام غير محتاجة إلى دافعٍ كهذا.

الارتباط بالحرب متأتٍّ من زمن الإنتاج، ومن موقفٍ يحضر في أفلامٍ لفؤاد شرف الدين، نواته رفضٌ لها (إشهاره غير مباشر)، يتساوى وتأكيدُ (غير مباشر أيضاً) ضرورةِ استعادة الدولة من تغييبها، عبر نهاياتٍ بصرية يكون لـ"سرية الطوارئ 16" المعروفة بـ"الفرقة 16" (قوّة أمنية رسمية لبنانية) دورٌ في غلبة الشرّ، والانتصار للخير. لكنّ هذا غير مانعٍ تنبّهاً إلى أنّ التجاري في أفلامه غير ملتزم اشتغالاً سينمائياً متكاملاً، فالحاجة مُلحّةٌ إلى إنجاز أفلامٍ، طالما أنّ هناك تمويلاً بعضه غير منتمٍ إلى نظام إنتاجي صحّي، خاصة مع مغادرة مخرجي "الجدّية" ومخرجاتها بيروت، منذ الربع الأول من تلك الثمانينيات، إلى مدن أوروبية، أبرزها باريس. كأنّ الساحة تخلو لهذا النوع المبسّط لا التبسيطي، مع أنّه، في فترةٍ ما، دافعٌ إلى إنتاج الجدّي، وإنْ ضمنياً.

كلّ استعادةٍ لأفلامٍ، يمثّل فيها فؤاد شرف الدين، تكتفي برثاءٍ في رحيله من دون قولٍ نقديّ مفيد، تبقى ناقصة، إذْ يصعب عدم الإشارة إلى ركاكةٍ في بناءٍ درامي، وسردٍ حكائيّ، وأداء تمثيلي، وهذا شبه مخنوق بالتلفزيوني، فالغالبية الساحقة من ممثلي تلك الفترة وممثلاتها عاملون وعاملات في الإنتاج التلفزيوني.

رغم اختناق التمثيل عامةً بالنَّفَس التلفزيوني، تمتلك أفلامه تلك الميزات (المذكورة أعلاه)، وربما هذا كافٍ لها، لأنّ أفلامه جزء أساسي من ذاكرة جماعية، وبعض الجماعي فرديّ أيضاً كالعادة، يحاول (الجزء الأساسي) المشاركة فعلياً في "صناعة سينمائية لبنانية"، ستحتاج إلى أعوام عدّة، لاحقة على النهاية المزعومة للحرب، كي تعثر على مفردات عملية ومهنية وفنية لها.

لحظة شيوع نبأ رحيل فؤاد شرف الدين، يُستعاد فوراً "الممرّ الأخير" (1981)، لشقيقه يوسف، المقتبس بتصرّف عن "البطل" (1979) لفرنكو زفيريلّي. فاحتواؤه على أنواع سينمائية عدّة، كالإجرام والعصابات والسرقة، إلى الحبّ والعلاقة الأبوية والصداقة والميلودراما، التي ستكون فاقعة وبكائية، من دون تناسي بُعدين يتكامل أحدهما مع الآخر: قهر الشرّ والانتصار للخير، والإصرار على وجودٍ ما للدولة، رغم أنّها "مفقودة" حينها؛ هذا الاحتواء يجذب كثيرين وكثيرات إلى صالات السينما، في عامٍ شاهدٍ على تقلّبات سياسية وأمنية واقتصادية ـ اجتماعية، تظهر ملامحها الأكثر عنفاً في العام التالي (1982)، خاصةً أنّ ممثلين وممثلات فيه تلفزيونيون، ما يعني أنّ لهم شعبيةً قادرةً على إخراج كثيرين وكثيرات من منازلهم.

لكنْ، لفؤاد شرف الدين أفلامٌ أخرى، لها مكانةٌ (متفاوتة الحجم) في الذاكرة الجماعية ـ الفردية، وفي التأريخ لحكاية السينما في لبنان: "حسناء وعمالقة" (1980) لسمير الغصيني، و"القرار" (1981) ليوسف شرف الدين، و"نساء في خطر" (1981) للغصيني، و"المتوحشون" (1982) لرضا ميسر، و"قفزة الموت" (1982) و"المجازف" (1983) و"الرؤيا" (1985)، والأفلام الثلاثة هذه لشقيقه يوسف أيضاً، وغيرها (التواريخ المُعتمدة ترتكز على أول عرضٍ تجاري لبناني لكلّ فيلم).

هذا يُشير إلى سمة أخرى، تتمثّل في كثرة النتاجات في أعوامٍ متتالية، وأحياناً في عامٍ واحد. كأنّ الحرب الأهلية غير متمكّنةٍ من ردع هؤلاء جميعاً، وغيرهم وغيرهنّ أيضاً، عن إنجاز سينمائي، مكشوفٍ لمزيدٍ من القراءات النقدية الجادّة. أمّا الحكايات، فلا علاقة لها بأي جهة سياسية ـ فكرية، أو طائفية ـ حزبية. ولا علاقة لها أيضاً بفلسطين وقضيتها وناسها، رغم أنّ تلك المرحلة نفسها غير خاليةٍ من أفلامٍ، تُعتَبر "نضالية"، أقلّه بالمفهوم السائد حينها.

الإفراط في سرد حكايات فردية، مستلّة من اليوميّ والعاديّ والواقعي (بعيداً عن هموم الحرب ومآسيها وأزماتها وأسئلتها وعنفها، إجمالاً)، موقفٌ يحرص على إظهار اهتمامٍ أساسيّ بسينما، يُراد لها أنْ تُشاهَد من كثيرين وكثيرات. "خلطة" فنية، يعتمدها "الممر الأخير"، كغالبية الأفلام الأخرى لفؤاد شرف الدين، مع تغييراتٍ طفيفة في استخدام الأنواع بين فيلمٍ وآخر، ومع تثبيت القدرة الجسدية للممثل في مواجهة أعدائه، إلى استخدام سلاحٍ بين حين وآخر.

عام 2000، يُخرج فؤاد شرف الدين "إيفانوفا"، ويمثّل فيه مع ابنته جومانة. تجربة عابرة، رغم أنّ القصة المروية تكشف جانباً من بيروت، في خمسينيات القرن الـ20، بسهراتها وغليانها وأحوال ناسها، باتّخاذ ملهى في "حي الزيتونة" البيروتي، المليء بالحانات والملاهي الصاخبة، حيّزاً أساسياً لعالم الليل، وتفاصيله الممتدة على جرائم ونزاعات وصفقات. قصة يُفترض بها أنْ تروي شيئاً من بيروت، زمن احتفالها اليومي بنفسها، بصفتها حيّزاً لحرية وانفتاح يقتربان كثيراً من الفوضى والتوهان. لكنّ الفيلم ركيكٌ، إخراجاً وسرداً وتقنيات، والأداء غير متوافق مع ما يُفترض بالقصة أنْ ترويه.

هذا غير مانعٍ اعتبار فؤاد شرف الدين أحد أبرز ممثلي سينما ثمانينيات الحرب الأهلية اللبنانية تحديداً (له أعمال تلفزيونية عدّة)، تلك الساعية إلى قول إنساني أخلاقي وطني، عبر نمط أفلام الأكشن/الحركة، بمفردات فنية تحتاج إلى تأهيل وصقل، غالباً. وإذْ يُشبّهه البعض بستيف ماكوين وتشارلتون هيوستن، شكلاً بالتأكيد، فإنّ وسامته محفورةٌ في قلوب مراهقين ومراهقات، وشباب وشابات تلك الفترة على الأقلّ. وسامةٌ لن أتردّد في القول إنّها قابلةٌ لاستثمار سينمائي أهمّ وأعمق، لأنّ في أدائه شيئاً من مهارة وحِرفية، مؤهّلتين للاستفادة البصرية منهما، لكنّهما غير متطوّرتين، لشدّة انهماك الإنتاج اللبناني حينها بنوعٍ واحد من التجاري، وبعض التجاري ناجحٌ مالياً.

المساهمون