تُعد قرية إرطاس الفلسطينية الواقعة جنوب بيت لحم جنوب الضفة الغربية، ثاني أقدم منطقة فلسطينية بعد مدينة أريحا شرق الضفة الغربية، ومصدر المياه قبل العام 1967 لمدينتي القدس وبيت لحم، لوفرة عيون المياه فيها وتخزينها في برك سليمان جنوب بيت لحم، وقد أهلتها طبيعتها الخلابة لأن تحظى بلقب "الجنة المقفلة".
تلك الجنة تقع على مساحة قلصها الاحتلال الإسرائيلي بالمصادرة والاستيلاء لصالح توسع المستوطنتين "الوحش أفرات" و"عتصيون" المقامتين على أراضي بيت لحم، من 13 ألف دونم إلى ثلاثة آلاف دونم فقط. ورغم ذلك يجاهد مزارعوها الذين يشكلون 55 بالمائة من إجمالي عدد السكان البالغ قرابة ستة آلاف نسمة، للإبقاء على خضرة بساتينهم المعتمدة على عيون الماء الوفيرة فيها.
مصدر مياه
على مساحة واديين في قرية إرطاس تمتد بساتين الفلاحين والواديان هما واد إرطاس (85 دونماً) وواد الدلو (80 دونماً)، وتزودهما بالماء عين إرطاس أو "عين النبع المختوم"، وهي العين الأساسية التي لا تجف مياهها طيلة العام، وقد عسكر عندها إبراهيم باشا في السابق، وسحب منها الماء الملك هيردوس عندما بنى قلعته المعروفة بجبل هيريدون أو جبل الفرديس، وسيطر الإنكليز على مياهها لصالح مناطقهم بالقدس، بحسب رئيس مجلس قروي إرطاس سابقاً أحمد إسماعيل في حديث لـ"العربي الجديد". يقول إسماعيل: "إن حجم التدفق في العين لا يقل عن 70 متراً مكعّباً في الساعة خلال موسم شتاء وفير. وهي تزود أراضي واد إرطاس، والعديد من العيون الأُخرى خاصة حوالي برك سليمان، مثل عين الدرج وعين القلعة والفاحوجة، وجميعها مع البرك كانت تزود بيت لحم والقدس بالماء قبل ردم الاحتلال القنوات التي توصل القرية بالمدينتين. وهي تزود بساتين واد الدلو بالمياه".
سلة غذاء زراعية وخصبة
تنتج أراضي قرية إرطاس الخصبة التي تعد السلة الغذائية لمحافظة بيت لحم، العديد من المحاصيل والمنتجات الزراعية على مدار العام، خاصة خلال فصلي الشتاء والصيف: ففي الأشهر الماطرة يزرع الفلاحون؛ الفجل والخس، ويخصص لهما مهرجان سنوي في القرية، بالإضافة إلى اللفت والملفوف والقرنبيط والسبانخ. وفي الصيف تنتج بساتين "الجنة المقفلة" الفاصولياء والفلفل والبندورة (الطماطم) والباذنجان، كما يوضح أحمد إسماعيل. كان مزارعو إرطاس يتوجهون لمدينة القدس قبل انتفاضة العام 2000 لتسويق منتجاتهم الزراعية. لكن إجراءات الاحتلال ومنح تصاريح العبور حالت دون ذلك، لكنهم ما زالوا يتوجهون لسوق بيت لحم وأرصفتها لبيع منتجاتهم بكميات قليلة. ولبيع المزيد من منتجات البساتين يتوجه المزارعون لسوق بيت لحم المركزي في قلب مدينة بيت لحم العتيقة.
قرية تاريخية
يعتني الباحث في تاريخ وطبيعة قرية إرطاس فادي سند بتفاصيل المعلومات التي يحصل عليها من خلال مسارات واستكشافات حثيثة في قريته، ويُخضعها للمقارنات والتحليلات ويربطها مع معلومات أُخرى حول القرية.
يقول سند لـ"العربي الجديد"، إنه قرأ توثيق العديد من الباحثين الفلسطينيين حول قرية إرطاس، أبرزهم مصطفى الدباغ وعارف العارف، ثم يحاول تدقيقها خاصة أنهم جميعاً اختلفوا حول تاريخ برك سليمان؛ فمنهم من قال إن تاريخها يعود للملك سليمان ما قبل العهد الروماني، وبعضهم يسند البناء للرومانيين. "مشيت أنا ونشطاء آخرون ضمن مجموعة (أوكسجين) مسافة تقارب 44 كيلومتراً لاستكشاف قناة بيلاطوس التي تربط عيون قرية إرطاس وبرك سليمان بالقدس. ومن خلال المسار اكتشفنا أن الزراعة كانت موجودة بالقرية منذ ستة آلاف عام، وهذا يشير إلى أن الحياة كانت قائمة في القرية منذ العصرالحجري، وعليه يُرجح أن البرك التاريخية في إرطاس موجودة منذ ذلك العصر؛ ما قد يضعف رواية أن البرك بنيت في عصر الملك سليمان أو العهد الروماني، وهذا ينطبق على قناة بيلاطوس الناقلة للمياه نحو القدس"، يؤكد الباحث والمصور فادي سند في حديث لـ"العربي الجديد". ويقول سند: "من غير المنطقي أن تكون البرك تنقل المياه في عهد الملك سليمان، وقد بُنيت القناة أصلاً على يد بيلاطوس الروماني، أما البرك فأغلب الظن أنها كانت عبارة عن سدود لتجميع المياه منذ العصر الحجري".
توثيق لتاريخ الأشجار والنباتات النادرة
يحاول سند توثيق الأشجار والنباتات البرية النادرة في قرية إرطاس؛ مثل شجرة المِيس وقد تبقى منها شجرة واحدة فقط في قرية إرطاس، وشجرة الفلفل التي أحضرها المستشرقون عام 1848 إلى القرية، بعد أن جلبوها من أفريقيا، وزرعوها في وادي أو شِعب السيدة لويزا، وهي إحدى القديسات التي قصدت قرية إرطاس وأقامت فيها ديراً على اسمها، هدمه الاحتلال وصادر أنقاضه، ويروج له الآن عبر استقطاب وفود سياحية أجنبية على أنه كنيس هدمه الفلسطينيون خلف أراضي جدار الفصل العنصري غرب قرية إرطاس. وتطرح الشجرة ثمر الفلفل الشبيه بحبوب العدس، ويعتقد أن أراضي إرطاس كانت تضم شجرة الأرز اللبنانية.
يوضح الباحث في تاريخ قرية إرطاس فادي سند أنه يسعى لإصدار كتاب مصور، يُبرز فيه النباتات البرية الموجودة في طبيعة قرية إرطاس، بل ويقارن بين بعض النباتات التي يتحدث المؤرخون عن وجودها في القرية وبين تلك الموجودة في بعض الكُتب القديمة، ويتجه بعدها للطبيعة للبحث عنها، والتقاط الصور لها، وإرفاقها بشرح كتابي أو نبذة تعريفية في الكتاب. يقول سند: "نحن نحاول أيضاً بالتعاون مع بعض الوزارات الفلسطينية لحفظ بعض النباتات من الانقراض مثل شجرة الميس النادرة، وشجرة الفلفل، نظراً لأن إرطاس هي أكثر قرية فلسطينية حظيت بالتوثيق والتأريخ". وتضم قرية إرطاس ذات الطبيعة اللافتة العديد من الأماكن الأثرية والتاريخية المهمة؛ وبالإضافة إلى عيون الماء وبرك سليمان توجد معالم أبرزها "دير الراهبات" الذي تم الانتهاء من بنائه عام 1901، وتمكث به الآن ست راهبات فقط، و"قلعة مراد"، والعديد من الخِرب والمقابر الأثرية.