- السعدني كتب الكتاب خلال فترة منفاه بعد خلاف مع الرئيس أنور السادات، معبرًا عن قلقه من تراجع مستوى القراء الجدد مقارنة بالأجيال السابقة.
- على الرغم من الانتقادات لاستخدامه عبارات إنشائية ومعلومات غير مدققة، يظل الكتاب مهمًا لإبراز قراء نسيتهم الأجيال الجديدة ويدعو لإعادة تقييم جودة فن التلاوة.
على مدار عقود، مثّل كتاب "ألحان السماء"، الذي ألفه الكاتب المصري الراحل محمود السعدني المرجع الأول لكل من يكتب أو يبحث في التاريخ المعاصر لفن التلاوة، فقد صدرت الطبعة الأولى منه في إبريل/نيسان عام 1959.
كان الكتاب فريداً في موضوعه، جذاباً في أسلوبه، جمع فيه المؤلف عدداً من الحكايات عن أشهر قراء القرآن الكريم في القرن العشرين، مبيناً رأيه في وزن كل قارئ منهم بين زملائه. موضوع الكتاب وتاريخ صدوره كانا من أهم أسباب الريادة والأولية التي نالها هذا المؤَلف، فلا يكاد يخلو موضوع صحافي عن أحد كبار قراء مصر، أو عن فن التلاوة عموماً، من الاستشهاد بفقرة أو أكثر من فقراته.
لكن في المقابل، فإن الكتاب حمل قدراً غير قليل من المعلومات التي تفتقر إلى التدقيق، أو الإحالة إلى مصدر يُعتدّ به، وقد حظي هذا النوع من المعلومات بالإقبال الأكبر والانتشار الأوسع والنقل المستمر في الصحافة. ولأن للريادة سحرها ومكانتها، لم يحظ "ألحان السماء" بقراءة نقدية تفرّق بين "صحيحه" و"ضعيفه"، أو تفصل بين ما اختلط فيه من رأي ومعلومات، أو بين ما حواه من حقائق وشائعات.
حين صدر كتاب "ألحان السماء"، كان المؤلف في سجن القلعة متهماً بالشيوعية. وبعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، غضب الرئيس أنور السادات على محمود السعدني، واتهمه بالسخرية منه ومن زوجته جيهان. اضطر الكاتب الساخر إلى مغادرة مصر، ولم يرجع من منفاه الطوعي في عدة بلدان إلا عام 1982. لكن حين رجع إلى مصر، صدمه الفرق الشاسع بين مستوى القراء القدامى وبين مستوى الشهيرين الجدد.
وعبّر في مقدمة كتابه عن ذلك قائلاً: "هالني مدى الفرق الرهيب بين مشايخ الأربعينيات والخمسينيات والستينيات وما نسمعه الآن، خصوصاً السادة المشايخ الذين احترفوا تلاوة القرآن في التلفزيون. أصوات ملساء وأخرى صلعاء بلا نبض أو إحساس". انتبه الرجل إلى أهمية إعادة طبع كتابه، ليذكر الأجيال الجديدة بما كانت عليه دولة التلاوة المصرية، وما آلت إليه.
لعل أول ما يلفت العين اليقظة وهي تطالع الكتاب ذلك التوسع في استخدام العبارات الإنشائية، التي لا تقدم تفسيراً واضحاً لارتفاع مكانة شيخ قارئ أو تدني مكانة آخر. وقد تجلى هذا العيب واضحاً في أول أبواب الكتاب، عند حديث المؤلف عن الشيخ محمد رفعت، الذي رأى المؤلف أنه استمد طبيعة صوته من "جذور الأرض"، و"من أصوات الشحاذين والمداحين والندابين والباعة الجائلين". وبسبب هذا الاستمداد من الأرض والشعب، جاء صوت رفعت، برأي المؤلف "عنيفاً عنف المعارك التي خاضها الشعب، عريضاً عرض الحياة التي يتمناها الشعب".
من المفهوم أن يستخدم الكاتب بعض العبارات الإنشائية ليحظى باستهلال بارع أو ختام محكم، لا سيما عند الحديث عن صوت استثنائي كصوت الشيخ رفعت، لكن بناء رؤية كاملة على مجازات واستعارات لا يفيد قارئاً جاداً ولا باحثاً مدققاً. كان محمود السعدني "سميعاً" من طراز نادر، عاصر بنفسه الحقبة الذهبية لأعلام القراء، لكنه لم يمتلك طول حياته أي قدر من الدراية الموسيقية، وهي من لوازم وزن الأداء الصوتي الفني، فعوّض هذا النقص بأسلوب أدبي جذاب.
ومما يثير الدهشة في الكتاب، حديث المؤلف المستفيض عن قرّاء لم يعاصرهم، ولم يستمع إليهم مرة واحدة، لا مباشرة، ولا عبر تسجيل، إذ ليست لهم تسجيلات أصلاً، مثل الشيخ أحمد ندا، والشيخ محمود البربري، والشيخ محمد القهاوي، والشيخ حسن المناخلي. اعتمد المؤلف في حديثه عن هؤلاء القراء على روايات سمعها من بعض معاصريهم، بعضها تعضده مصادر أخرى، وأكثرها تصعب جداً معرفة مقدار قربها من الحقيقة. ويمكن للقارئ اليقظ أن يضع يده على تناقضات واضحة بين صفحات الكتاب.
مثلاً، يقطع المؤلف بأن الشيخ محمود البربري مات من دون أن يترك تسجيلاً واحداً، وتلك حقيقة لا جدال فيها، لكن عند حديثه عن الشيخ سعيد نور، يذكر أن هوايته الوحيدة كانت الاستماع إلى تسجيلات الشيخ البربري.
التناقضات والمعلومات غير الدقيقة، بل وغير الصحيحة، تملأ الكتاب من أوله إلى آخره، حتى يكاد ألا تخلو منها صفحة من صفحاته. وأيضاً الانفراد بمعلومات لم يستطع أحد في حياة المؤلف ولا بعد رحيله وإلى اليوم أن يتأكد منها. ومن أهم أمثلة هذا النوع، حديثه عن شيخة قارئة تسمى نبوية النحاس، وأنها رحلت في عام 1973، وأنه برحيلها انطوت صفحة الشيخات القارئات من تاريخ فن التلاوة بمصر.
وهذه مجموعة من مدهشات الكاتب والكتاب، فاسم نبوية النحاس لم يعرفه أحد، ولم يذكره في مصر قارئ ولا كاتب ولا باحث، ولم يرد حتى في مجالس الحكايات المسلية، وكل المصادر المطبوعة والإلكترونية التي تذكره تنقل حصراً وقصراً عن "ألحان السماء". وما لا يمكن أن يجادل فيه أحد أن انخراط النساء في التلاوة الجماهيرية انحسر كثيراً، لكنه بقي لعقود بعد التاريخ الذي ذكره المؤلف، بل بقي حتى بضع سنوات مضت، وهو إلى اليوم لم يندثر بنسبة 100%.
ومن أشهر المعلومات التي انفرد بها محمود السعدني في كتابه، ولم يستطع أحد أن يؤكدها إلى اليوم، ما نسبه إلى الموسيقار محمد عبد الوهاب، بأنه وصف صوت القارئ الشهير محمد محمود الطبلاوي بأنه يؤدي "النغمة المستحيلة". وبغض النظر عن كون الموسيقى تعرف هذا الوصف أم أنه مجرد وهم، فقد تسبب كتاب "ألحان السماء" في انتشار الكلمة المنسوبة لموسيقار الأجيال انتشار النار في الهشيم.
ويمكن لمن يرغب في اطلاع سريع على حجم هذا الانتشار أن يكتب في محرك البحث غوغل عبارة "النغمة المستحيلة"، فقط من دون أي معلومات مساعدة، وعلى الفور ستظهر له آلاف النتائج التي تتحدث عن تلك النغمة، لكن كل هذه النتائج ستأتي ضمن موضوعات صحافية أو إعلامية عن الشيخ الطبلاوي، وكلها بلا استثناء تنقل ما كتبه محمود السعدني، من دون تعضيد بمصدر واحد، حتى ولو كان واهياً.
لكن المديح الذي كاله محمود السعدني للشيخ الطبلاوي، ووصفه الرجل بأنه آخر حبة في سبحة جيل العمالقة، يتناقضان مع موقف ساخر لاذع ساقه المؤلف ضد الشيخ نفسه، في مقدمة كتابه، إذ قال نصاً: "عندما هاجمت الشيخ الطبلاوي لجهله وضيق أفقه وعدم اعترافه بأحد غيره من القراء، اتصل بالحاج إبراهيم نافع وهمس له بأنه يخشى أن يكون وراء الهجوم عليه القارئ أحمد نعينع".
والحقيقة أن ثناء محمود السعدني في كتابه على الطبلاوي، ثم انتقاده بشدة في مقالات صحافية، أو انتقاده للقارئ أحمد نعينع في كتابه ثم مدحه في مقالات منشورة، عززا وجهة نظر ترى أن مديح محمود السعدني أو ذمه القراء المعاصرين لم يكن كله لأسباب فنية محضة. لكن هذه المواقف المتضاربة يجب أن تكون دافعاً لبحث دؤوب يتتبع تغير آراء المؤلف ومواقفه من خلال رصد الطبعات المختلفة للكتاب، منذ صدوره، وأن تستكمل الصورة بجمع المقالات التي خصصها المؤلف لنفس الموضوع.
يقدم الكتاب للقارئ خريطة عامة عن أعلام فن التلاوة في القرن العشرين
وضع الكتاب أمام القارئ عدداً من "التصويبات" المهمة لأخطاء كادت أن تمر وتستقر لولا قلم المؤلف اللاذع الساخر. ومن أمثلة ذلك، رده الشديد على الشيخ أبو العينين شعيشع، الذي زعم أن "عسكر يوليو" منعوا تسجيلاته من الإذاعة لأنه كان قارئ الملك.
أكد محمود السعدني أن شعيشع لم يكن قارئاً للملك، وأن مجرد القراءة مرة أو مرتين في قصر عابدين لا تعني أنه صار قارئاً للملك، وأن هذا الوصف كان محصوراً في الشيخ مصطفى إسماعيل، الذي كان قارئاً رسمياً للقصر الملكي، واستمر قارئاً رسمياً للدولة بعد ثورة يوليو 1952. وأوضح المؤلف أن الشيخ شعيشع احتبس صوته مبكراً بعد أن داهمه المرض، وبسبب تاريخه ومكانته، فإن "عسكر يوليو" قرّروا بث تسجيلاته في الإذاعة بانتظام، كما قرروا استمرار المكافأة المالية التي كان يتقاضاها عندما كان قادراً على التلاوة، وأن الأمر ظل كذلك حتى رحيل الرئيس جمال عبد الناصر.
ومن توضيحاته المهمة، تصديه للخلط بين صفة "شيخ عموم المقارئ" وصفة "شيخ القراء"، فالمقارئ مجرد إدارة في وزارة الأوقاف، ومشيختها كانت للقارئ محمود خليل الحصري، فهو شيخ عموم المقارئ المصرية، لكن شيخ القراء في هذا التوقيت لم يكن إلا مصطفى إسماعيل. ويمثل المؤلف للفرق بين الرجلين بالفرق بين أستاذ الأدب في الجامعة وبين نجيب محفوظ، فالحصري مدرس متخصص، ومصطفى إسماعيل فنان موهوب، ومن السهل -برأي المؤلف- إنتاج ألف أستاذ، لكن من العسير خلق فنان واحد.
بالرغم من كل جوانب الضعف في الكتاب، إلا إنه قدم للقارئ خريطة عامة عن أعلام فن التلاوة في القرن العشرين، كما أن المؤلف استطاع أن يرصد عدداً من مظاهر الانحدار في فن التلاوة، بعد اكتشافه أن الطراز العبقري من القراء قد اندثر، وحلت محله أصوات تزعج وتنفر، كما رصد ظاهرة "المقلدين" الذين اشتهروا جماهيرياً، ووصلوا إلى ميكرفون الإذاعة، من دون أن يتمتعوا بأي مستوى من مستويات الأداء الإبداعي. طالب الرجل بحل لجان الاستماع، وإعادة تشكيلها من خبراء وكفاءات، واتهم القائمين على اختيار الأصوات الإذاعية بالفساد وقبول الرشاوى.
يُحسب للكتاب، أيضاً، أنه ذكر الجماهير ببعض القراء الذين نسيتهم الأجيال الجديدة بسبب ندرة ما تبثه الإذاعة من تسجيلاتهم رغم كونهم من الطبقة الأولى الرفيعة، من أمثال الشيوخ: أحمد سليمان السعدني، وعبد الرحمن الدروي، ومحمد فريد السنديوني.
صحيح أن الكتاب خلا من التحليل، إذ لم تكن الموسيقى من صنعة الكاتب، لكنه اعتمد على أذن مرهفة، تدربت بالسماع الطويل لأهم القراء في القرن العشرين، فاكتسبت خبرة معتبرة تعرف بها الأصلي من المزور، ومع الحكايات الشيقة، والنفس الساخر، والأسبقية الزمنية، نال الكتاب مكانته الجماهيرية، ولم يعد من السهل تجاوزه، بعد أن أمسى باباً لا بد من المرور خلاله لكل من يريد أن يدخل عالم الشيوخ والقراء.