مسلسل "سفر برلك": ما بعد سنوات الحب والرحيل
للشخصيات في المسلسلات التي يخرجها الليث حجو بعدٌ آخر يشعر به المشاهد منذ اللحظات الأولى لظهورها. بُعدٌ يدفع المشاهد، من دون وعي، إلى التساؤل: هل هذه الشخصية أعرفها في الحياة الواقعية أم أنها خصلٌ تتشابه مع خصل لأُناس حقيقيين؟
للتنقيب عن إجابة، علينا أن ننطلق من قبل بداية تصوير المسلسل؛ منذ لحظة الكتابة على الورق. النصوص الدرامية التي تتخللها أجيال عدة وتناقش عدة مواضيع من وجهات نظر مختلفة، تُبرز سمات شخصياتها الإنسانية، تُؤنسن أحلام هذه الشخصيات وآلامهم وآمالهم وحتى لحظات موتهم. نصوص لا تحمل بعداً واحداً للحقيقة، تدعم شخصياتها بطبقات درامية كثيفة وحوارات بعيدة عن الرطانة والتقعر، من دون السمو بالشخصيات فوق الواقع. فالعمل على الملاحم الدرامية ضمن مستوى عال من الثقافة والدربة، يدفع المشاهد إلى طرح السؤال أعلاه.
"سنوات الحب والرحيل" هو عملٌ مشترك بين حجو والمخرج الراحل حاتم علي، لم يُكتب له أن يكتمل بعد رحيل شيخ الكار حاتم علي، تصدى حجو للعمل وحده، وأهداه إلى علي. يظهر الإهداء في بداية العمل. مع مجموعة من الكتّاب وإنتاج مجموعة إم بي سي، عُرض المسلسل على منصة شاهد في رمضان 2023 تحت عنوان "سفر برلك".
اختيار النصوص والقضايا المبنية على مسائل شائكة بالتاريخ، قد يكون أسهل من بناء عالم تلك المرحلة، فعند تصوير الدراما نكون في عملية إنشاء للواقع على نحو ما، هذا الواقع الذي سنروي، من خلال شخصياته المتسقة معه، ملحمة الكفاح والعذاب العربي الذي تعرض له كل من لبنان وسورية والمدينة المنورة بشكل خاص عند بداية سقوط الإمبراطورية العثمانية وانهيارها إثر الحرب العالمية الأولى.
سفر برلك، هذا المصطلح الإشكالي، يحمل في خباياه وجهات نظر عديدة، تجتمع تاريخياً على حقيقة أنه مهلكة جماعية، تعني بالتركية النفير العام والتأهب للحرب. المصطلح الذي أصدره السلطان العثماني محمد رشاد عام 1914 على شكل فرمان لجر الشباب إلى الخدمة العسكرية الإلزامية، الذاكرة الجمعية لأهل المدينة تعتبر السفر برلك هو التهجير القسري لأهل المدينة إلى دمشق والعراق، في دمشق ولبنان سفربرلك هو خياران لا ثالث لهما، الهرب إلى المجهول أو الموت فيه.
اختيار النصوص المبنية على مسائل شائكة بالتاريخ أسهل من بناء عالم تلك المرحلة
تدور الأحداث الرئيسية للعرض ذي البطولة الجماعية حول أربعة أصدقاء، يدرسون ويقيمون معاً في إسطنبول. مع التقدم بالعرض، تتوسع الشخصيات بالمعنى الدرامي وتبنى لها خطوط حياتية تتشابك وتتقاطع مع ظروف وطبقات اجتماعية ومناخات سياسية وقمع عسكري. الأروقة الأكاديمية لم تكن كافية لتحضير الشباب لرحلة الوعي السياسي التي سيكسبونها من اصطفافاتهم الأيديولوجية، ومن ثم الانتقال للقتال على جبهات الجيش العثماني في البلقان على الحدود الروسية.
يحيى (أنس طيارة) قادم من دمشق، من عائلة بسيطة، يلتقي سمر اصلطحان (نانسي خوري) في إسطنبول وتتقاطع حياتهما بتفاصيل مبهمة للمشاهد حتى الحلقة الأخيرة. مهمتهما تكمن في نشر مذكرات سرية مهما كلف الأمر، عبد الرحمن المدايني (عبد الرحمن اليماني) القادم من المدينة المنورة، شاب بسيط مهذب تحكمه العادات والتقاليد، لعائلته ثقل اجتماعي وسياسي وثقافي في المدينة المنورة، تجربتهم القاسية بعد أن قتل الدرك عمهم في إحدى المظاهرات ضد العثمانيين، نقشت في ذاكرتهم تجربة ظلم قاهرة، ستدفعهم كلٌّ على حدة ليقاوم بطريقته.
في المنزل المشترك أيضاً يوجد فايز (وسام فارس) ومعه فريد (بيو شيحان)، فايز هو ابن البيك، الانتهازي الطامع بالسلطة وفريد هو ابن العربجي لعائلة فايز، لفايز أحلام طبقية طفولية، كانتظاره للتساوي بين الفقير والغني في كل شيء بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، بعد أن يكتشف فايز علاقة فريد بأخته مي (ريان حركة) يبدأ الصراع بينه وبين فريد على الأصعدة كافة، بدايةً من الشخصية، وانتهاءً بالسياسية.
لم يسقط المسلسل في الشرك الدعائي أو في الشرط الحكومي بشكل كامل، لكن الشخصيتين التاريخيتين الرئيسيتين كانتا على النقيض من باقي الشخصيات من حيث البناء المتين، وكأننا ننظر إليهما بنظرة عربية أحادية حاقدة على تلك المرحلة. الشخصية الأولى كانت شخصية جمال باشا السفاح التي قام بأدائها عابد فهد، شحنت الشخصية درامياً بمشاعر متناقضة غير مبررة ولم تعالج درامياً حتى تتسق مع باقي الشخصيات، وحتى من دون النظر في تاريخ الشخصية الحقيقية وأيديولوجيتها وانتمائها، سقطت الشخصية في حالة دعائية، والمشكلة الأكبر كانت بالجمل المباشرة وبقاء الشخصية منذ ظهورها في الحلقة السادسة حتى الحلقة العشرين والأخيرة (كسر المسلسل قاعدة الثلاثين حلقة) على ذات الإيقاع، من دون أن تتطور حسب الظروف المحيطة أو إدخالنا إلى عوالمها.
الشخصية الثانية، وهي أيضاً مفصلية في التاريخ، تحديداً تاريخ أهل المدينة وتغريبتهم، هي فخري باشا (فادي صبيح). هذه الشخصية في التاريخ كانت الآمر الناهي بحال المدينة المنورة وأهلها والمسجد النبوي، الحقائق حول تفخيخه للمسجد النبوي أو تديّنه المبالغ فيه مع قسوته مختلفٌ عليها، لكن الواضح بشكل صارخ هو الأداء المترهل والجمل المقعرة وشرح المشروح وردود الأفعال المبالغ فيها.
مواقع التصوير المتنوعة بين مصر وجبال لبنان والأحياء القديمة في دمشق، مع الاعتناء بتفاصيل تلك المرحلة والإلمام بظروف تلك الحقبة، فتحت ساحة واسعة مع النص الذي صُمم على قياسها كي تتدافع وتتصارع الشخصيات الغنية داخلها، الصدمات السياسية والطبقية والاجتماعية لم تتحول إلى ميلودراما، ولم تُجَمل الشخصيات ولم تُبَخسها، كانت تماماً كما يجب أن تكون.
ينتهي المسلسل عند وصول الإنكليز إلى القدس، وتحول طريق حلب إلى مجرد خط سير تاريخي لسقوط الإمبراطورية العثمانية. الانتهازيون يقفزون من سفينة الجيش العثماني إلى سفينة الجيش العربي المدعوم من بريطانيا. جمال باشا وفخري باشا يعودان إلى إسطنبول، لا أشرار يموتون، قصص الحب تترابط من جديد لتخفف وطأة الأحداث على المُشاهد. المنزل كنداء غريزي عند الشخصيات منذ بداية العرض يتجلى بعودة أهل المدينة المنورة إلى منازلهم، والمجاعة التاريخية التي سببها العثمانيون في بلاد الشام والجزيرة العربية بسبب تحويل المؤن كافة إلى الجيش انتهت.
رُغم دربة حجو الطويلة ورحلته المهنية الغنية، إلا أنه لم يتولّ بنفسه إخراج مشاهد المعارك والحرب بين الحشود والتفجيرات في المعركة التي دارت على الحدود الروسية. كان المخرجان أليخاندرو توليدو وريكاردو كروز هما المسؤولين عن تلك المشاهد التي أغنت العمل وقدمت بُعداً آخر له. يبدو أن هذه المشكلة ستبقى تلاحق الأعمال العربية بشكل عام والسورية بشكل خاص، حتى نبني مع تفاصيلها معرفة وخبرة بتقنياتها ورؤية مُبيئة تناسبنا.