استمع إلى الملخص
- الفيلم يُظهر قوة السينما في جذب الجماهير وتحقيق الأرباح بميزانية 160 مليون دولار وإيرادات 315 مليون دولار، مؤكدًا على أهمية القصص الخيالية في الهروب من الواقع.
- يجمع بين التكنولوجيا الحديثة والسرد القصصي لاستكشاف موضوعات مثل الإنسانية، التطور، والعلاقة بين البشر والطبيعة، مقدمًا تأملات حول السعي وراء المعرفة والتحرر من القيود.
تتأكد عظمة الإنسان عند وقوفه بجوار قرد. يُهدّد الخيال العلمي هذا التفوّق المؤقّت، بحسب فيلمٍ جديد عن كوكب القردة، التي لا ذيل لها، وتمشي عمودياً، وتطوّرت وصارت تتكلّم وتريد محو تاريخها الكولونيالي في أقفاصٍ صنعها بشرٌ لسجنها. هذا في فيلم "مملكة كوكب القردة" (Kingdom of the Planet of the Apes) للمخرج الأميركي ويس بال. كيف يستدرك القرد تطوّر الإنسان؟
يتطوّر ذكاء القرد اصطناعياً. يكتشف أنّ للرموز معنى. في البدء، كانت الكلمة. الآن جاء الذكاء الاصطناعي والمؤثّرات البصرية والسمعية، التي تمنح احتمالاً كبيراً وصدقية لفرضية التخييل السينمائي: "ماذا لو؟". بفضل هذه الدقّة التصويرية قَلّ الحوار، واقتصر على ما لا يُمكن تصويره. كلّ ما أمكن تصويره حُذف من الحوار. تَمّ عرضه لا قوله.
كلّف "مملكة كوكب القردة" 160 مليون دولار أميركي، وحقّق 315 مليوناً بين 8 و31 مايو/أيار 2024. هذا تقييم جماهيري لا تحصل عليه أفلام مهرجانات نخبوية مجتمعة في زمن دمقرطة الفن. يخجل النقاد التقليديون من الكتابة عن أفلام الكواكب الخارقة والحيوانات، لكنّ الربح مضمونٌ مع أفلامٍ تُنقذ البشر من الواقعية المفرطة التي يعيشونها. يبدو أنّ القرد، ابن الطبيعة، معروفٌ للبشر، وأكثر جاذبية للمُشاهدين من "سوبر هيرو" مفبرك. لم تخيّب القردة توقّعات المنتجين. لا تشيخ حكايات الخيال الخصب. هكذا صار الخيال العلمي في خدمة العجائبيّ.
"كوكب القردة" التاسع عن عجائب المخلوقات الخارقة. ماذا ينقص كوكب البشر ليشتدّ فضولهم إلى معرفة كوكب القردة؟
أولاً: عالم جديد في طبيعة بكر. قرد له سمات إنسانية، ينخرط في أفعال إنسانية، ويتأمّل فراخ نسر. تُعرض حكايات هذه الحيوانات في قاعة سينما رباعية الأبعاد. لم يخطر هذا ببال الحكائين الشفويين، إيسوب وابن المقفع ولافونتين، ولا ببال صاحب البعد الثالث في الرسم الزيتي، فيليبو برونليسكي.
ثانياً: تقدّم الكاميرا سرداً بصرياً يمنحُ ـ لمَشاهد الماء المتدفق من علٍ، في شاشة عملاقة ـ تأثيراً نفسياً مذهلاً. يشعر المُشاهد أنّه تبلّل، بينما يعيش مشاهدة حسّية على كرسيّ هزاز. هذه درجة تماهٍ حسّية، تتعزّز بمُشاهدة جماعية في قاعة سينما. تُصوّر الكاميرا المشهد من فوق. يتسلّق القرد الشجر، والكاميرا فوق، فيشعر المشاهدون كأنّ القردة تقصدهم كـ"قطار" الأخوين لوميير (1895).
تقنية العرض رباعية الأبعاد، بضعف ثمن تذكرة دخول عادي، تجعل مشاهدة "مملكة كوكب القردة" تجري من الداخل. يقفز القرد، فيميل كرسي المُشاهد إلى الخلف. يطير النسر، فيندفع الكرسي كأنّه يُحلّق. تبقى المسافة ثابتة بين النسر والكاميرا، أي بين النسر وعين المُشاهد. الكاميرا وسيطٌ بشري وحيد يُحلّق.
ثالثاً: مَلّ البشر كوكبهم الشرير وحياتهم، مثلما حصل للوكيوس أبوليوس. إنّهم يطلبون مرْهم التحوّل، المسخ من الفن. في هذا، يتمّ السردُ اللعب على تناص الحكايات. تتمّ مطاردة قميص، فيه رائحة. هكذا تحضر محكيات صغرى، تتناص مع حكايات عتيقة معلومة للمتلقي، عن سفينة الطوفان، وقميص يُرجِع البصر، وقرد يحكم ويُشرّع.
تُسند أفعال الإنسان إلى الحيوان، فيخترق العجائبيّ حاجزي الزمان والمكان. العجائبيّ سلوكٌ، حدثٌ منظور إليه من تَمثّلٍ وفهمٍ خاضعٍ لقوانين الطبيعة. بالبحث عن سمات ثابتة ومتكررة لهذا النوع الفيلمي، يظهر أنّ الفاعل ليس قوّة غيبية خارقة، بل نتائج تطوّر البحث العلمي، التي تخلق الاستثنائيّ. لا محلّ للعادي في العجائبي.
رابعاً: تقع الأحداث في المستقبل لا في الماضي، كالحاصل في الأساطير. تجسر السينما المسافة بين تفكير أسطوري عتيق وعلمٍ حديث.
خامساً: يكتشف المُشاهد المُرفّه في المدينة نمط عيش الانسان الصياد، قبل الثورة الزراعية. سردياً، جرى تجسيم البدايات التي كانت منبع حكايات الحيوانات غير المدجّنة. ثم قفز السرد إلى المستقبل.
تسرب فيروس من مختبر، فصنع كارثة. هذه مقدّمات صحيحة، تمنح مصداقية للنتائج المتخيّلة، وتجعلها ممكنة وقابلة للحدوث. هذا يطرح سؤالاً: هل يُعقل أنْ يكون القرد أكثر إنسانية من الإنسان؟ كلّ باحثٍ عن جواب يُحقّق هدفَ صانعي الفيلم في التأثير على الجماهير. قرد ٌطبيعي ضدّ قردٍ مُعدّل جينياً، بعد حقنة تزيد الذكاء. هذا يساعد على علاجٍ، أسماه ألبرت آينشتاين الغباء اللامحدود لدى البشر. يعرف القرد ماضيه في القفص. صار "سيبرمان"، يضع عينيه على منظار، ليرى شكلَ المستقبل الواعد.
فيلمٌ يفجّر حدود الخيال بوجوهٍ عليها ماكياج أقلّ، كي تكون مُعبّرة. القيصر القرد يحاول التحكّم في العالم، بالمعرفة المخبّأة في هيكل سفينة عملاقة، قديمة جداً. تتناص المشاهد مع خزّان صُوَر في ذاكرة المُشاهدين: تشعل النار لسماع الحكايات. الحاكم العادل المؤسّس قيصر حقيقي مات، ويُبحث عن بديل صالح. بعد 70 دقيقة، تظهر قصة الجميلة والوحش. تجري صفقة، ويُقدّم وعد فوق مقبرة. تحضر مشاهد الحضارة الرومانية. يذكر هجوم النسور على القردة بغربان ألفريد هيتشكوك.
رغم استثماره التراث السردي، يحترم السيناريو (كتابة جوش فريدمان)، المبني على رواية "كوكب القردة" (1963) للفرنسي بيار دول، الخطّاطة النمطية لفلاديمير بروب عن الشخصيات السبع. لا يغامر المنتجون بتغيير قوانين السرد، المُجرّبة والراسخة. ("مور فلوجية الخرافة"، ترجمة إبراهيم الخطيب، "الشركة المغربية للناشرين المتحدين"، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1986). بسبب الشرير، القائد المزيّف، يرحل البطل نوح بعيداً عن قريته، لتنفيذ مهمّة عاجلة.
في الطريق، يلتقي العجوز المساعد راكا، المُسلّح بالكتب. يستفيد البطل من دروس القرد العارف، الذي يبدو كحمورابي يضع القوانين، وأوّلها: لا يقتل القردُ القرد. هذا ينفي التحذير الوارد في "ماوغلي: أسطورة الغابة" (2018) لأندي سِرْكِس: احذرْ شعبَ القردة، لأنّه شعب بلا قوانين.
يعاني نوح تصرّفات البطل المزيّف، منتحل صفة قيصر. جرت محاولة لكسر الباب لبلوغ المعرفة. مستحيل. من يملك السرّ، يحقّق "افتح يا سمسم". الرهان كبير ومعرفيّ. المعرفة عصب كلّ ثورة وتغيير. بعد فتح الباب وحصول الطوفان جارف الأعداء، نال البطل الجائزة: حرّر قبيلته. هكذا الخيال العلمي في خدمة العجائبي، لتصوير ثورة القردة ضد ديكتاتورية الزعيم المزيّف.
يُقدّم "مملكة كوكب القردة" متخيّلاً أنثروبولوجياً مكثّفاً ومتعدّد الروافد، في فيلم موجه إلى العالم لا إلى جمهور ضيّق. هذا يُفسّر مداخيل ثلاثة أسابيع. حالياً، يُعرض "مملكة كوكب القردة "10 مرات يومياً في مجمّع سينمائي واحد في كازابلانكا.
السينما لم تمت بعد: هذه رسالة عملية إلى الذين ينعون القاعات السينمائية، زمن المنصّات الرقمية.