يتراجع عدد الأبنية التراثية والمنازل ذات الزخارف البغدادية المميزة والمتفردة في العاصمة العراقية التي يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من قرنين من الزمن، جرّاء التوسع العمراني وقلّة المساحات داخل المدينة، وهو ما يلاحظه الأهالي الأصليون، وهم يرون مدينتهم تتحوّل تدريجياً إلى معسكر للعمل والتجارة، ويتقلّص حضور المباني التاريخية، مقابل توسّع التصاميم العشوائية الجديدة.
تتركز أغلب البيوت التراثية وسط المدينة في أحياء مثل البتاوين والكرادة والغدير وزيونة والأعظمية وغيرها، وتعود ملكيتها غالباً لشخصيات عراقية معروفة في مجالات متعددة، منها السياسة والفنون، مثل منزل النحات العراقي جواد سليم، صاحب أشهر عمل نحتي: "نصب الحرية"، إضافة إلى بيوت ما يعرف بباشوات وأعيان بغداد قديماً.
لا توجد إحصاءات واضحة ودقيقة خاصة بعدد المنازل والأبنية التراثية في بغداد، لكنه يصل إلى آلاف المنازل من جهة الرصافة، ولا سيما الشاطئية على نهر دجلة، وقد هَدمت السلطات المئات منها، بحجة أنها خالية وتُهدّد أمن المنطقة الخضراء (الحكومية) التي تقع على شاطئ دجلة من جهة الكرخ، وفق روايات يتناقلها البغداديون الذين يبدون استياءهم الكبير مما تشهده مدينتهم من تشويه مستمر، لا ينحسر، بل يتمدد.
في حديث إلى "العربي الجديد"، يقول شوكت عيسى (43 عاماً)، من أهالي حي الكرادة، وسط بغداد، إن "العاصمة العراقية تتعرض إلى طمس متعمد لمعالمها الأثرية والتراثية والتاريخية. الأمر لا يقتصر على المنازل التي تتعرض إلى تشويه وتدمير واستيلاء وتهديم، بل بلغ التعدي على التراث البغدادي مرحلة خطيرة، مثل المحال التجارية في سوق الصفارين الذي صار يتآكل تدريجياً، إضافة إلى الخانات والحمامات". يضيف عيسى: "المدينة باتت رمادية، وتتكاثر فيها المنازل ذات التصاميم العشوائية بعد تراجع كبير في عدد المنازل القديمة ذات التصاميم الأصيلة التي تعبر عن فخامة المعيشة في العاصمة خلال العقود الماضية"، معتبراً أن "ما يحدث هو انحدار ثقافي للتصاميم العربية، بعدما غزت التصاميم الغربية شكل المدينة".
من جهته، يشير المهندس العراقي محمد الربيعي إلى أن "مدينة بغداد تحتوي على آلاف المنازل ذات التصاميم المعمارية الفريدة، لكن غالبيتها هُدمت خلال السنوات التي أعقبت الاحتلال الأميركي عام 2003، وما بقي منها تحوّل إلى مخازن للتجار الذين اشتروا هذه المنازل الكبيرة من أصحابها بأكثر من طريقة"، مبيناً في حديثٍ إلى " العربي الجديد"، أن "بغداد تفقد ذاكرتها العمرانية تدريجياً".
يؤكد الربيعي أن "العاصمة فقدت خلال الأشهر الماضية أكثر من أربعة منازل أثرية في حي الكرادة والعرصات، وتحوّلت هذه المنازل إلى عمارات تضم شققاً تؤجّر للطلبة أو لمحامين وشركات طباعة"، موضحاً أن "أكثر من ثلاثة آلاف منزل هُدمت (في بغداد فقط) خلال السنوات الماضية، ولم تتحرك أي جهة تدعي حماية الآثار والتراث لمنع هذه التجاوزات، بل حتى المباني الأثرية التي تعود إلى الدولة، مهددة بالإزالة لأسباب تتعلق بحماية مقار حكومية، أو كونها آيلة للسقوط، ولعل ذلك قمة الاستخفاف بتاريخ البلاد العماري، خصوصاً أن العراق كان من أكثر البلدان العربية تقدماً في هذا المجال".
أما سليم الفيصل، وهو مهتم بالتراث العراقي، فيشير إلى أن "هدم الأبنية التراثية والدور السكنية في بغداد، التي تعود بجزء كبير منها للمسيحيين الذين تركوا العراق بعد الاحتلال الأميركي، تعرضت إلى تشويه بالغ القبح، بسبب التوجه نحو التجارة من قبل بعض الذين استولوا على تلك الدور أو اشتروها".
يرى الفيصل أن "هذا التشويه والتهديم لمراكز حضارية هامة في بغداد، ينسحب على مدن أخرى، مثل بابل وكركوك والبصرة، ولعل السنوات العشر المقبلة قد تكون أكثر إيلاماً لمن يبحث عن تاريخ العمران العراقي، ولا سيما أنه سيكون خالياً من أي مشاهد أنيقة".
بدوره، يلفت المسؤول في وزارة الثقافة العراقية علاء العبيدي إلى أن "التمدن العشوائي يغزو معظم المدن العراقية، وتحديداً بغداد، باعتبارها الأوفر اقتصادياً وتجارياً. وهناك من يوجه اللوم إلى وزارة الثقافة أو الجهات المعنية بالأبنية التراثية والتاريخية في العاصمة، لكن صلاحيات الوزارة تقف عند الملكيات الخاصة؛ إذ لا تستطيع الوزارة أن توقف عملية هدم أي مبنى اشتراه مواطنون عراقيون، ويريدون تغيير شكله".
يوضح العبيدي في حديثه لـ"العربي الجديد" أن "الوزارة تهتم بالأبنية العائدة إلى دوائرها، ولدينا في شارع حيفا كثير من دور التراث التي تهتم الوزارة وفرقها بها وترعاها، كونها تمثل لمحات من تاريخ العمران العراقي. ينسحب هذا أيضاً على شارع الرشيد وشارع أبو نواس"، موضحاً أن "منازل كثيرة في بغداد، بمساحات واسعة تصل إلى ألف متر، ذات بناء من طراز قديم، وبعضها يعود إلى أربعينيات القرن الماضي، لا تزال قوية وقادرة على الاستمرار، حُوّلت إلى محال تجارية وشقق ومجمعات طبية بعد هدمها، وهو أمر مؤسف بكل تأكيد".