مجموعة من الموسيقيين السوريين باتت تنشط في العاصمة الألمانية. مهجرٌ شبابي يزخر بالطاقة والموهبة، يُنتج المادة السمعية بالمواصفات والمعايير العالمية، لجهة جودة الصوت وسلامة التنفيذ وحسن التنسيق عند العمل ضمن فريق، سواء على المسرح أو في الاستوديو.
"شام تريو"، ثلاثي يقدم موسيقى صارت تُعرف بـ"الجاز الشرقي" (Oriental Jazz). يضم كلاً من يزن الصباغ على آلة الكلارينيت، والحسن النور قانون، وسام سلوم إيقاع. اجتمع الفريق خلال أمسية شتوية على مسرح أحد أندية الجاز في المدينة الشهر الماضي، استضاف أيضاً كلاً من عازفة البيانو أنجيلا بطرس، وعازف التشيلو بازيليوس العواد.
وإن أتت بطرس والعواد من خلفية موسيقية كلاسيكية غربية (ينطبق ذلك على الصباغ أيضاً)، كان من الواضح الجليّ عزم النخبة الصاعدة على اختراق الحدود بين التصنيفات التقليدية للأجناس الفنية، ومزج الهويات استجابةً لروح العصر البين - مناهجية، ومقتضى تجربة الحياة والنشاط في المدن الكوزموبوليتية، وذلك على سبيل البقاء الفني أولاً، قبل المادي والمهني.
اختراقٌ، يبرز الجاز الشرقي كإحدى عُبواته العصرية العابرة للثقافات، التي ترعاها المؤسسة الثقافية الغربية، وتمنح المُنتج الموسيقي السوري فرص الحضور، مثلها مثل الموسيقى الإلكترونية. من جهة أخرى، يوفر هذا اللون للأذن النقدية فرصة الإنصات، ومن ثم التأمل في ملامح الموسيقى السورية هذه الأيام، وإلى أين ذهبت بها العقود الماضية.
غياب البهجة، أو ندرتها، لتبدو أبرز تلك الملامح. ميلانكوليا غالبة على أجواء الحفلات التي يُحييها عازفون سوريون، أمست العلامة التجارية الخاصة بموسيقى الجاز الشرقي. كما أخذت تُسهِم، بصورة غير مقصودة بالضرورة، في تنميط الحضور الموسيقي الشرق أوسطي على الساحة الثقافية الغربية.
للوهلة الأولى، قد يسهل تفسير تلك الظاهرة في ظل الظرف التاريخي المأسوي الناجم عن الحرب والمنفى، والذي مرّ ويمرّ به منذ عقد إلى الآن مُعظم من يقيم في الخارج اليوم، سواء بشكلٍ مباشر أو ليس مباشراً. إلا أنه، أيضاً، قد يكون هناك تفسير آخر، بعيدٌ عن السياسة، قريبٌ من الموسيقى، مرتبطٌ بسبل المعالجة التي ظلت تخضع لها الأغنية العربية عموماً، والسورية بشكل أخص، منذ تسعينيات القرن الماضي.
كان من اللافت للأذن، كما للعين، كيف أن البهجة عادت لتعمّ الأنغام كاسرةً الجو الميلانكولي العام، جاعلةً الحيوية تدبّ بالجمهور من جديد، حين قدم "شام تريو" شارة المسلسل السوري "ضيعة ضايعة" من ألحان طاهر ماملّي وغناء علي الديك. ثم عند تقديم الفرقة، في ختام الأمسية، دولاب الأغاني التراثية المتعلقة بدراما البيئة الدمشقية، كـ"عالصالحية"، و"ليمونة عالليمونة".
يبدو ذلك مفهوماً. فتلك أغانٍ شائعة بين السوريين، تستحضر فيهم نوستالجيا مرتبطة بمسلسلات سورية لا تزال رائجة. إلا أنه هنالك أيضاً خاصية صوتية تشترك بها هذه الأغاني، قد ميّزتها عن باقي فقرات الحفل، ألا وهي حضور فاصلة البُعَيد في ألحانها، أو ربع التون كما يُعرف بحكم العادة. فما الذي جعل البهجة وتمايل أجسام المستمعين، يا ترى، مقترنين، من الناحية الحسية، بالتقاط آذانهم نغمة ربع التون؟
عادة ما تفصل بين النغمات الموسيقية، إن هي تتابعت على محور أفقي، إما مسافة بُعد أو نصف بُعد، كما هي حال الموسيقى الغربية، أو ربع بُعد كما هي الحال في الموسيقى الشرقية على نحو خاص، وإن لم يكن استثنائياً. من الناحية الشعورية، تتناهى مسافة البعد انفراجاً، بينما تئنّ مسافة نصف البعد انقباضاً. أما مسافة ربع البعد، فلها خاصية لاثنائية None-binary لجهة الحمولة الحسية؛ إذ هي لا انفراج ولا انقباض، وإنما برزخ صوتي بين الحالتين.
عبر سيرورتها التطورية، تبلورت الموسيقى الأوروبية، حتى القرن التاسع عشر، من خلال ثنائية السلمين الكبير والصغير. يبدأ الكبير بتجاور مسافتي بعد كامل، بينما تتضمن بداية الصغير مسافة نصف بعد. الأمر الذي جعل من تلك الثنائية ليس محض تقنية فقط بغية بناء الانسجامات العمودية، وإنما ثنائية شعورية أيضاً في تطبيقاتها السلمية الأفقية. ثنائية تقوم على الكبير والصغير، المنفرج والمنقبض، الفرح والحزين.
بينما تحافظ مسافة ربع البُعد على نوع من الحياد الشعوري الإيجابي، إذ إنها لا تفرض على الأذن قطباً مزاجياً أحادياً، وإنما تستجيب لحالة المستمع النفسية، إلى حركة الموسيقى، إضافةً إلى تموضعها على سلم المقام. فإن سبقها أو أعقبها بُعد كامل تنفرج، كما هي حال مقامات شرقية، كالراست والبيات. وإن أعقبها نصف بُعد، تنقبض كحال مقام الصبا وتحوّراته.
منذ عقد التسعينيات، طرأت على الأغنية الجماهيرية العربية، في الشام ومصر وبلدان الخليج، تبدلات في الشكل والمضمون، وذلك في مسعى إلى عصرنتها، تأثراً بالأغنية الجماهيرية الغربية. أهم تلك التبدلات ما يُعرف اختزالاً بالتوزيع. ففي حين أن التوزيع ضمن سياق الموسيقى الغربية يعني إسناد أصوات متعددة إلى آلات متنوعة، ضمن المؤلف الموسيقي الغنائي أو الآلي، بغية التلوين الصوتي. بقي مفهوم التوزيع في الموسيقى العربية أقرب إلى الهرمنة، أي مد الأغنية التي ظلّت تُلحّن على العود وبصوت واحد، بالانسجامات العمودية المرافقة (الهارموني).
لقد شكّل البُعيد الشرقي، أو ربع البُعد، عقبة أمام مهمة الهرمنة، أو التوزيع؛ إذ بدا أنه سيُسمع نشازاً إن اعترضه انسجامٌ هارموني، ومن ثم لن تتقبله آذان العامة. من هنا، ومن دون وعي، راح الملحنون والموزّعون يتجنبون المقامات التي تحوي أرباعاً، ويعتمدون تلك التي تشبه السلالم الغربية لسواغة توزيعها، ولحملها بذات الوقت هويةً شرقية. فراجت بموجب هذا مقاماتٌ كالكرد والحجاز، تلك التي تبدأ بأنصاف بعد وتحمل بذلك طابعاً ميلانكولياً حزيناً.
إلى جانب الغناء الطربي، الذي ظل أهله وسامعوه يرجعون إلى المقامات التي تحوي ربع بُعد، كانت الأغنية الشعبية قد حافظت أيضاً على بُعيداتها النغمية، سواء تلك التراثية القديمة منها، أو ما باتت تعرف اليوم بـ"الشعبي" في الشام، وتُسمّى أغاني "المهرجانات" في مصر. الأمر الذي حافظ بدوره على تلوّن الأمزجة النفسية التي تخلقها لدى المستمع، بعيداً عن أحادية الحزن الناجمة عن اجترار مكرور لكل من مقامي الكرد والحجاز، لا تزال الأغنية الجماهيرية العصرية تعاني منه إلى اليوم.
عامل آخر، لعله قد أسهم أيضاً في ميل الجاز الشرقي نحو الميلانكوليا، ألا وهو موسيقى الفلامنكو المميزة لمنطقة الأندلس جنوب إسبانيا. فبحكم المشتركات التاريخية والثقافية لكل من الفلامنكو والموسيقى العربية، علاوة على استقطاب الجاز لذلك اللون التراثي، بفضل هامش الارتجال الواسع فيه، إضافةً إلى مجهود أيقونته عازف الغيتار الإسباني باكو دي لوتشيا (1947 - 2014)، غدا الفلامنكو، بهذا، مصدر إلهام لم يمكن تجنّبه من قبل رواد الجاز الشرقي.
وإن يجمع الفلامنكو بين ارتكازه من جهة على سلالم شبيهة بالشرقية، كالكرد والحجاز، وبين هرمنتها بعزف انسجامات عمودية ترافقها على آلة الغيتار، إلا أن سرعة إيقاعاته وحيويتها تُسهم إلى حد بعيد في تحييد السمة الميلانكولية لألحانه. في المقابل، حين تُنظم ألحان مشابهة ضمن سياق الجاز الشرقي على نبض إيقاعات شرقية أكثر بطئاً، أو تُستخدم في خلق مساحات مُمتدة قائمة على الارتجال الحر والمُرسل، فإن ذلك من شأنه أن يُظهّر المسحة الكئيبة لتلك الألحان.
الانفتاح الموسيقي، الجمالي والثقافي، الذي تشهده الذائقة العالمية المعاصرة اليوم على البُعيدات الخارجة عن ثنائية البُعد ونصف البُعد، والتي تأسست عليها الموسيقى الكلاسيكية الغربية على مدى قرون خمسة ماضية، قد يُشجّع الموسيقيين الشرقيين والعرب على سبر إمكانات تلحين موسيقي أشد تركيباً، وبالتالي أكثر تسامحاً من الناحية الصوتية، تستوعب البُعيد ضمن نسيجها النغمي.
في هذه الحال، فإن التجارب والاختبارات التي تسير على قدم وساق على مستوى إنتاجات موسيقية أكثر نخبوية، قد ترشح قريباً إلى الألوان والأجناس الأخرى، وبالتالي، تُسهم في تبديل المزاج الميلانكولي العام الذي نتج جزئياً عن إقصاء البُعيد من الساحة السمعية الجماهيرية. الدعوة هنا ليست العودة إلى تراث الماضي، وإنما الذهاب قُدماً بقصد إبداع تراثٍ للمستقبل.