بعد أقلّ من عامين على الانسحاب العسكري الأميركي الكامل من أفغانستان، قبل دقيقة واحدة من منتصف ليل 30 ـ 31 أغسطس/آب 2021، تُطلق إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن "عودة" إلى التجربة في "قلب" وزارة الخارجية والبنتاغون، عبر "إشهار" تقريرين سرّيين موجَّهين إلى الكونغرس: "هذه الوثائق السرّية مطلوبة من الجمهوريين خاصة، منذ فترة طويلة"، بحسب تحقيق صحافي لجوليان شابْروت، مدعوماً بتقرير لـ"وكالة فرانس برس"، منشورين في 7 إبريل/نيسان 2023، في "إكسبرس" (مجلة أسبوعية فرنسية): "في نهاية المطاف، بعد أكثر من 20 عاماً، وإنفاق أكثر من تريليوني دولار أميركي، وتنظيم جيش أفغاني من 300 ألف جندي، فإنّ السرعة والسهولة التي سيطرت بهما "طالبان" على أفغانستان يُشيران إلى أنّه لم يكن هناك سيناريو آخر يمكن أنْ يُغيّر المسار؛ باستثناء وجود عسكري أميركي دائم ومُعزّز بشكل كبير".
"الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان، في النصف الثاني من أغسطس/آب 2021، كارثة لصورة الولايات المتحدّة في العالم"، كما في وصفٍ يكتبه بيوتر سْمولر، مراسل صحيفة "لوموند" الفرنسية في واشنطن، (7 إبريل/نيسان 2023)، الذي يُضيف أنّه، "ببثّ صورة عن الارتجال والفوضى، يرتكز (الانسحاب) على "إنتاج أمني مشترك" مع قوات "طالبان" نفسها التي تريد واشنطن معاقبتها، قبل 20 عاماً".
هذا كلّه تمهيدٌ لـ"بوابة هوليوود (Hollywoodgate)" لإبراهيم نشأت، المُشارك في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، في الدورة الـ6 (14 ـ 21 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"مهرجان الجونة السينمائي". فيلمٌ وثائقي (ألمانيا ـ الولايات المتّحدة الأميركية، 2023، 92 دقيقة)، يعاين، في عامٍ كامل، يوميات سيطرة مقاتلي "طالبان" على قاعدة أميركية في كابول، تابعة لـ"وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)"، معروفة باسم "Hollywood Gate": الدخول شبه الحذر إلى مستودعات وغرفٍ معتمة، الحصول على طائرات ومُقاتلات وأجهزة عسكرية متنوّعة، العثور على أسلحة، وعلى أدوية ينتبه قادةٌ إلى إمكانية انتهاء صلاحياتها. لحظة بلحظة، ستولَّف (أتاناس جيورجْيياف وماريون تيور) النتيجة في شكلٍ بصري مبسَّط وهادئ، يكشف آليات اشتغال مولاي منصور، قائد القوات الجوية لـ"طالبان"، ومحمد جاويد مختار (ملازم)، في ترتيب أمور تلك القاعدة، مع تقدّمٍ في كيفية التحوّل من "مليشيا أصولية" إلى "نظامٍ عسكري".
قبيل نهاية الفيلم، يُكتَب أنّه، بحسب البنتاغون، تترك الولايات المتحدة في أفغانستان أكثر من 7،12 تريليون دولار أميركي قيمة معدّات عسكرية: "المبلغ بالضبط، المُحدَّد للعملية، الحاصلة عليه "طالبان"، غير معروف". الرقم، رغم أهميته العسكرية والمالية والسياسية، غير نافعٍ كثيراً في سياق فيلمٍ، يوثِّق تفاصيل الاستيلاء على حكمٍ، في بلدٍ يعاني حروباً وقهراً وخراباً، منذ سنين مديدة. الأهمية تظهر في كيفية التخلّي الأميركي "المتسرّع" (!) عن بلدٍ، تدعم متمرّديه ضد احتلال سوفييتي، قبل أنْ تحتلّه انتقاماً لـ"11 سبتمبر" (2001)، ثم تتخلّى عنه لمن تُخرِب العالم من أجل "القضاء" عليه. أرقامٌ مذهلة، تُصبح بين أيدي "طالبان" كنزاً غير مُتوقَّع، وهذا يقوله مسؤول كبير، يجهد في معرفة ما الذي يعنيه الحصول على تجهيزات كهذه، بعد تفتيش برّادات مليئة بزجاجات الكحول؛ وعلى آلياتٍ تُساهم في "بناء" نظام عسكري قامع.
البداية، المستندة إلى تسجيلات بصرية، تُذكِّر بأفعالٍ سابقة لـ"طالبان": تفجير أحد تمثالي بوذا في "باميان" (9 مارس/آذار 2001)، حرق أشرطة "نيغاتيف" لأفلامٍ وسحقها بجنازير آلية عسكرية، الاعتداء بالضرب بالعصا على نساء يرتدين البرقع. بدايةٌ تشي بمصير مألوف، قبل أنْ تبدأ رحلة إبراهيم نشأت مع "طالبان" في "العودة" إلى الحكم: "طفلاً، أتعرّف إلى كثيرين يرون في "طالبان" أبطالاً. في مُراهقتي، أشكّ في هذا الاعتقاد، ما يقودني إلى الصحافة. منذ ذلك الحين، أعمل في مناطق مختلفة في الشرق الأوسط وأوروبا، وأصوِّر قادة العالم. معظم هؤلاء أراد منّي أنْ أكون متحدّثاً باسمه، وناقلاً وجهة نظره، ومُضخّماً رسالته. عند وصول "طالبان" إلى السلطة (مجدّداً)، أُذْهَل، (وأتساءل): ما الذي سيحدث لشعب أفغانستان؟ هذا يُطاردني. بفضل خلفيّتي وتجاربي المهنيّة، أتساءل عن مدى إمكانيتي في الوصول إلى "طالبان". إنْ يكن هذا ممكناً، سأكشف للعالم ما الذي يُريدون منّي رؤيته، والأهمّ: ما الذي أراه".
يختصر إبراهيم نشأت علاقته بـ"بوابة هوليوود"، في تصريح خاصٍ بالموقع الإلكتروني لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي"، الذي يعرض فيلمه هذا للمرة الأولى في العالم، خارج مسابقة دورته الـ80 (30 أغسطس/آب ـ 9 سبتمبر/أيلول 2023). يقول شيئاً شبيهاً، وإنْ بتوسّع قليل، في بداية التصوير، وقبيل الختام. يستند، في التصوير، إلى وقائع تحدث أمام عينيه ـ عدسة الكاميرا (نشأت مُصوّر أساسي، والتصوير الإضافي لعادل صافي)، وفقاً لقبول مسؤولين في "طالبان"، فهناك مواقع وحالات يُمنع من تصويرها: "لماذا يُصوِّر؟"، يسأل مسؤولٌ زميلاً له في "طالبان"، فيُجيبه: "إنّه يُصوّر شيئاً يُشبه الفيلم، لكنْ مع أناس حقيقيين". أيكون قولٌ كهذا تفسيراً طبيعياً وواقعياً لمعنى الوثائقي؛ أم أنّه ردّ عفوي غير محضَّر سلفاً؟ يُضيف أنّ نشأت "يوثِّق حياتنا اليومية، المدنية والعسكرية، لعامٍ". لكنّه يستدرك سريعاً: "إنْ تكن نواياه سيئة، سيموت سريعاً"، قبل أنْ يُنهي تعليقه بالقول إنّ المخرج "يقول هذا، لكنْ لنرَ ما الذي سيفعله".
هذا ليس كلاماً عابراً. إنّه جزءٌ أساسيّ من نمط تفكير، وأسلوب تواصل. هناك انتباه إلى معنى الوثائقيّ وشكله وأهميته، وإلى ما يُمكن أنْ تؤول إليه أمور التصوير الوثائقي بمن يُصوِّر، بحسب كيفية تصويره، والمادة المنقولة بصرياً، لاحقاً. هذا يُمكن أنْ يكون امتداداً لقول نشأت، بأنّ هناك من يريده "النطق باسمه" و"نقل وجهة نظره". جملٌ قليلة للغاية تعكس جوهر العلاقة القائمة بين "طالبان" وأشباهها (وبعض أشباهها أنظمةٌ حاكمة في دولٍ، يُفترض بها أنْ تكون "ديمقراطية")، والصورة، فوتوغرافية ومتحرّكة، والمتحرّكة (فيلم وثائقي تحديداً) أخطر وأكثر أذيّة لاكتفائها بالتقاط الحاصل، تماماً كما يفعل إبراهيم نشأت في عامٍ كامل. فهو، بمتابعته الدقيقة مجريات أمور وتبدّلات، ووفقاً للمسموح به (رغم تحايل بصري مُحبَّب في صُنع أفلامٍ وثائقية)، يبدو كمن يخترق ذوات ومشاعر وتفكيراً، ناقلاً إياها بشفافية من يكتفي بالتصوير من دون تدخّل، رغم أنّ التدخّل سينمائي مطلوب، فالمُشاهدة كفيلةٌ بتفكيك نفس فردية تمزج بين تديّن واشتغال ميداني، وتبني دولةً على أسس دينية، يغلب عليها التسلّط والقمع.
"بوّابة هوليوود" (ترجمة حرفية) جهدٌ بصري يلتقط الحاصل في عامٍ، لفضح وقائع مرتبطة بمستقبل بلدٍ، من خلال تبيان مخلّفات احتلالٍ "يُهرول"، لأي سببٍ، خروجاً منه. إنّه (الفيلم)، بجزءٍ منه، انعكاسٌ لذات مخرج وروحه وتفكيره أيضاً، فالتوليف، كما التصوير، أداتان طيّعتان له في ترجمةٍ، ولو مواربة، لما يبغي قوله والتعبير عنه.