في أوراقٍ قديمة لي، أعثر على نصٍّ مكتوبٍ بعد إعلان انتحار الممثل الأميركي روبن ويليامز، في 11 أغسطس/آب 2014. يبدو النصّ تمريناً في كتابةٍ تريد ابتعاداً عن تقليد صحافيّ في رثاء سينمائي/سينمائية راحل، أو محاولة فهم مكانة من يرحل في ذاتٍ وعقلٍ وتفكير، خارج اشتغالٍ سينمائي.
أقرأه، وأرتّب فيه جملاً وفقرات غير مشغولة كفاية (هناك أقوالٍ لمتخصّصين/متخصّصات غير مذكور مصدرها، لسببٍ أجهله). أستعيده لرغبةٍ في تعمّقٍ ذاتيّ يتناول معنى الانتحار وأشكاله، فالنص غير متغاضٍ عن وفاة ممثل آخر، أميركي أيضاً، يُدعى فيليب سايمور هوفمان، وغير متغاضٍ عن حالةٍ في هوليوود، ومشاكل وضغوط.
للممثِّلََين مكانةٌ واسعةٌ في ذاتٍ وعقلٍ وتفكير، فلكلّ منهما سيرة وأفلام ومواقف، وغالبية هذا ترتبط في تلك الذات، وهذين العقل والتفكير.
(***)
يُعيد انتحار روبن ويليامز (1951 ـ 2014) سؤال الحالة النفسية العامّة، التي يعيشها عاملون/عاملات كثيرون في هوليوود. يُقال إنّ سبب انتحاره "إصابته باكتئابٍ نفسيّ". هذه حالة مفتوحة على عناوين عدّة: مخدّرات. كحول. علاقات اجتماعية متوتّرة ومتعدّدة. عدم ثبات في حالات زواج وعلاقاتٍ عاطفية. إلخ. حالة معقودة على التباس الحكايات كلّها: أإلى هذا الحدّ تغيب أسس سليمة لحياةٍ سوية في معقل الفنّ السابع؟ أإلى هذا الحدّ يُعاني مبدعون/مبدعات كثيرون ارتباكاً وخيبة وآلاماً في النفس والروح، قبل الجسد ومعه؟
في "ليز" (النسخة الفرنسية مترجمة من 9 أفراد، "منشورات فرانس لوازير"، 1995) لديفيد هايمان، كتاب السيرة غير المُصرّح بها لإليزابيث تايلور (1932 ـ 2011)، وصفٌ دقيقٌ لكيفية إدمان ممثلين/ممثلات في هوليوود على المخدّرات والكحول، وللإسراف في تعاطي أدوية مضادة للكآبة أو منشِّطة. نجوم/نجمات، في التمثيل والغناء والموسيقى مثلاً، يكشف "موتهم" تسلّط أطباء/طبيبات على يومياتهم، بـ"إجبارهم" على تعاطي أدوية كهذه. وثائقياتٌ عدّة، تبثّها "نتفليكس" وغيرها، شاهدةٌ على هذا.
أُضيف أسباباً أخرى: ملل. انعدامُ أفقٍ مُنبثقٌ (الانعدام) من بلوغ لحظةٍ في الحياة، تُصبح اختناقاً قاسياً. للممثل الفرنسي جيرار دوبارديو (1948) قولٌ مفاده أنّ الملل، كالأسى، دافعٌ قوي إلى موتٍ، يذهب/تذهب إليه من دون انتحار ("بريء"، منشورات cherche midi عام 2015، ص. 135). فالملل قاتل، خاصةً عندما يشعر المقتول/المقتولة بعدم معنى الاستمرار، وبغياب متعة اكتشاف مزيدٍ من الأشياء والحياة والناس.
عام 2007، يؤدّي فيليب سايمور هوفمان (1967 ـ 2014) أحد أدواره الجميلة، التي يُمكن اعتبارها انعكاساً شفّافاً وصادقاً لشخصيته الحقيقية، في إدمانه على المخدرات. بإدارة سيدني لوميت، يمثّل شخصية آندي هانسن في "قبل أنْ يعرف الشيطان أنّك مُتَّ": الشقيق الأكبر يتآمر وشقيقه الأصغر، هانك (إيثان هوك، 1970) على سرقة محل المجوهرات الخاصّ بوالديهما. تُقتل الأم. ينهار كلّ شيء. آندي مُرتبك وقلق. مدمن على أنواع عدّة من المخدّرات. كأنّه يؤدّي، في هذا الجانب على الأقلّ، دوره الحقيقي. هذا مكشوفٌ لاحقاً، بعد وفاته "بسبب جرعة زائدة من المخدّرات". روبن ويليامز ينتحر. السبب؟ كآبة قاسية. أسماء يُمكن إدراجها في السياق هذا.
"وكالة فرانس برس" تنشر، بعد 3 أيام على رحيل ويليامز، أي في 14 أغسطس/آب 2014، تقريراً يتناول المسألة، مضمونه لافت للانتباه: "هل تجتهد هوليوود كفاية في حماية نجومها من شياطينهم؟". التقرير يتضمّن أسماء ذاهبين إلى حتفهم انتحاراً، أو بسبب جرعات زائدة من المخدّرات، أو نتيجة إدمان على الكحول. يُذكر اسم مارلين مونرو (1926 ـ 1962). فـ"الشقراء الساحرة" يُعثر عليها ميتةً في منزلها، صباح 5 أغسطس/آب 1962. يُقال إنها مُنتحرة. التشابك مُعقّد وكبير بين السياسة والجنس، وأجهزة أمن ومافيات. هذا موضوع آخر. لكنْ، يُدرج هنا في إطار البحث في معنى "الانهيار العصبي"، الذي يُصيب فنانين/فنانات متنوّعي الاهتمامات.
في التقرير نفسه، تُذكر أسماء هيث لدغر (1979 ـ 2008)، وبرتاني مورفي (1977 ـ 2009)، وريفر فونيكس (1970 ـ 1993) وغيرهم. سببٌ واحد يؤدّي إلى موتهم: جرعات زائدة من المخدّرات. هذا سببٌ مُعلن. ما الدافع الفعلي (الدوافع الفعلية) إلى الإدمان؟
غداة انتحار ويليامز، تُغرّد الممثلة الكوميدية الأميركية الشابّة لينا دونام (1986) على تويتر"، قائلةً: "الانتحار تذكيرٌ مأسوي بأنّ النقاش حول الصحّة النفسية لا يُمكن أنْ يتوقّف". تُضيف: "المال، الشُهرة، الحرية الفنية: لا شيء من هذا كلّه قادرٌ على حمايتكم. لا شيء أهمّ من الصحّة. اعتنوا بصحّتكم. انتبهوا إلى بعضكم البعض".
المأساة واقعة. الجميع مُدركون كنهها ومساراتها ونتائجها. المأزق كبير. كثيرون/كثيرات يجدون أنفسهم على الحافة بين حياة وموت. يعيشون حياتهم كأنّهم في أعماق الموت. لا يأبهون، أم أنهم لا ينتبهون؟ النجومية سيفٌ مُسلّط دائماً عليهم/عليهنّ. يريدون سلامـاً، أو لعلهـم مُتيّمون بهذا النمط من العيش؟ كأنّهم عاجزون عن العيش بسلام وهناء. كأنّهم غارقون في جحيم الدنيا والبلاتوهات، وقسوة العلاقات والتباساتها.
يتساءل البعض: من المسؤول، فعلياً، عن واقع كهذا؟ "قطـاع السـينما" لن يُلام وحده "على المآسي كلّها في حياة الناس"، بحسب توم نونان (أستاذ جامعي في شؤون البصريات). المُعالِجَة النفسية جودي بلوم تؤكّد أنّ هوليوود "تقوم بأشياء كثيرة لمساعدة الفنانين في معالجة ارتباكاتهم النفسية والعصبية". تُضيف أنّ صناعة السينما مستمرّة في التعامل مع فنانين/فنانات يخضعون لعلاج نفسيّ: "لا تنبذهم (هوليوود) بسبب إدمانهم على الكحول أو المخدّرات، أو بسبب انهياراتهم العصبية". تُصرّ على أنّ المشاكل هذه "تجذب الاهتمام كثيراً، وهذا حسنٌ". بالنسبة إليها، "هذا البلاء" أبعد وأعمّ وأعمق من مسألة أفراد، لأنه يُصيب المجتمع برمّته. للنجوم عموماً، كما تقول، "أنانية"، ومسائل "الخلق والابتكار تؤدّي إلى بحث مستمرّ عن تمتين المظهر الخارجي (الصحّة العامّة)، ما يُمكن أن يؤدّي إلى الشعور بالفراغ، وبأنّ ما من شيء مفيد". تُنهي كلامها بالقول إنّ هذا لا يعني "أنّ الفنانين جميعهم مدمنون على المخدّرات".
النقابات الأساسية في هوليوود لا تتردّد عن تقديم مساعدات خاصّة بالعلاجين النفسيّ والعصبيّ لأعضائها. المُعالِجة النفسية تريسيا دوود تستنتج أنّ لوس أنجليس "أكثر تسامحاً من غالبية المدن الأميركية الأخرى". تقول إنّ أحداً فيها لا يُندِّد بمن يعترف بخضوعه لهذا النوع من العلاج: "هذه صناعة مُرحَّب بها كثيراً. تنقل إلى الجميع رسالة مفادها أنّ ما يُعانونه ارتباكاً أو مرضاً، وليس ضعفاً في الشخصية". المعروف تماماً أنّ للعاملين/العاملات جميعهم في هوليوود أشخاصاً ثابتين، يقومون بمهام عدّة: مدير أعمال، سكرتير، محام، مُحاسِب و... طبيب نفسيّ. الخضوع لأنظمة صارمة في صناعة السينما جزءٌ أساسي من أسباب الارتباك. هذا الأخير يؤدّي، غالباً، إلى الإدمان.
(***)
في هوليوود (وغيرها)، ضغوطٌ تقود إلى انهيار، فإدمان متنوّع الأشكال، واكتئابٍ يُزيد من حدّة الضغوط. كلّ مساعدة، إنْ تحصل، غير كافيةٍ. المهنة قاسية. هناك حقوقٌ غير مُقدَّمة بما يليق بأعمالٍ واجتهادات. حقوق مالية ومهنية، خاصة بالنسبة إلى نساءٍ، يُعامَلْن بفوقية ذكورية قميئة.
هناك توهان حقيقي يضيع فيه كثيرون/كثيرات. توهان يبدو واضحاً أنْ لا خلاص منه حتّى بالمخدّرات والكحول، وأنماط عدّة من الإدمان.