تبث منصة نتفليكس، حالياً، مسلسل "صنعة التجسس" Spycraft. ثماني حلقات مقتبسة من كتب الصحافي هنري شليسنغر، المهتم بتكنولوجيا التجسس والتجسس المضاد، الموظفة من قبل وكالة الاستخبارات المركزية في الولايات المتحدة. يبدو عنوان المسلسل مثيراً للاهتمام، خصوصاً أن العالم اليوم أصبح مدركاً لتقنيات التجسس والمراقبة، وتحولها إلى رأسمال يهمين على حياتنا بشكل يوميّ. لكن المسلسل يتعامل مع التجسس بوصفه واجباً وطنياً لاختراق "الأعداء" وحماية "الأصدقاء" والوقوف بوجه الإرهابيين والمخربين.
كل حلقة مقسمة إلى ثلاثة أجزاء، أساسها التطور التكنولوجي الذي من دونه لا وجود للتجسس، إذ نبدأ من التكنولوجيات التي تبدو اليوم مضحكة، كالميكروفونات العملاقة أثناء الحرب العالمية الثانية، انتهاء بتلك المايكرويّة التي يمكن أن تزرع في أي مكان. هذا التقسيم أيضاً يبدأ بتكنولوجيا الأعداء، أي الاتحاد السوفييتي، وما طوره من أجهزة، ثم ما مارسته المخابرات الأميركيّة، ثم كيف انقلب التجسس إلى ممارسة تطبق على المواطنين أنفسهم، لا فقط على "الأعداء".
تتنوع الموضوعات في الحلقات: تقنيات التجسس، الاغتيال، العمليات السريّة، التخريب. كل واحدة منها تكشف لنا عن الدور الاستخباراتي وأهمية التجسس. لكن حقيقةً، لا نعلم بدقة ما هي نتائج هذه العمليات، أي هل فعلاً هذه الأساليب فعالة، أم أن ما نراه هو فقط العلني والمتداول؟ وهذا ما يعاب على المسلسل؛ إذ يقول لنا ما يمكن لأي بحث صغير على غوغل اكتشافه، خصوصاً أننا أمام تكنولوجيات جديدة مختلفة كليّاً، لا نظن أننا نعلم كيف تعمل، ليبدو المسلسل نوستالجياً واحتفاء بـ"زمن الاستخبارات الجميل"، حيث كانت الشجاعة والحنكة هي الأساس في عمل التجسس، لا الهوس بالتشفير والتكنولوجيا والقراصنة.
يستضيف البرنامج عدداً من الخبراء والفاعلين في وكالات الاستخبارات. هم رجال كبار بالعمر، يتحدثون عن ماض سحيق، بعكس ما نعرفه الآن من جواسيس أو موظفين في وكالة الاستخبارات المركزيّة، كحالة إدوارد سنودن مثلاً، الشاب الذي فضح برنامج التجسس الخاص بالـ سي آي إيه، فنحن نشاهد جيلاً من المحاربين القدماء الذين لم يعد لهم دور الآن، سوى تذكر الماضي وتقديم الاستشارات.
يكشف لنا المسلسل عن المخيلة الجاسوسيّة والحبكات والابتداعات التي يمكن أن نقرأها في كتب جيمس بوند، ما يدل على المدى الذي يمكن أن تصل إليه وكالات الاستخبارات من أجل الحصول على ما تريد أو اغتيال من تظنهم أعداء. وهذا ما يخلق الرعب لدى المشاهد، خصوصاً أننا حالياً نعيش بارانويا وقلق الخصوصيّة، تلك المنتهكة للأقصى من قبل وسائل التواصل الاجتماعي، ناهيك عما يمكن أن تمتلكه المخابرات عن كل واحد منا، أو بصورة أخرى كيف يمكن لها أن تتلاعب بنا من دون أن نعلم ذلك.
يركز المسلسل على البلدان الأشد قوة في مجال التجسس: أميركا، وروسيا والصين، وإسرائيل. المثير للاهتمام أن روسيا تظهر الوحيدة التي تغتال مواطنيها، أو معارضي النظام، في حين تبدو الولايات المتحدة شديدة الإنسانويّة، تمارس التجسس على الأعداء، أما الاغتيال، فهو مساحة غامضة، خصوصاً في ظل تقنيات الدرون، التي تثير الرعب حين نعرف عن قدراتها المميتة. تكمن المفارقة بأن المسلسل يحاول أن يخبرنا، بصورة ما، بأن التجسس والتنصت أمران جيدان، ووكالات الاستخبارات تبذل ما بوسعها لحماية مواطنيها، مهما كان الأسلوب المتبع. لكن هناك بعض الدول الديكتاتورية، كروسيا، تسيء استخدام الاستخبارات، وتحولها إلى جهاز قمعي. لكن، بصورة عامة، مهنة الجاسوس مثيرة للاهتمام، ولا داعي للخوف منه، لأنه في النهاية يحمي بلاده.
هذا الخطاب الوطني مثير للسخرية، خصوصاً حين نعلم أن السلطات الآن تتجسس على "الجميع"، وتصنفهم جماعات وفئات وقطاعات، فالأمر لم يعد يرتبط بفرد واحد لا بد من اكتشاف أسراره، بل أسرار الجميع، كما يحدث في الصين مثلاً، حيث الجميع تحت "أعين" السلطة.