انقضى العالم الماضي بسلسلة أخبار غير عادية، وعابرة للقطاعات: من الاقتصاد إلى السياسة والبيئة، وحتى الترفيه. إلا أن القطاعين العسكري والتكنولوجي نالا حصتهما الأكبر من الأخبار.
قدّمت الحرب الروسية الأوكرانية تذكيرًا دائمًا بهشاشة شرطنا الإنساني، وسهولة انهيار تفاصيل بحجم سلاسل إمدادنا الغذائية، بينما فتح سباق التسلّح بالذكاء الاصطناعي الأبواب لكل التساؤلات عن المستقبل والعمل وغير ذلك. ولأن القطاعين السابقين نادرًا ما ينفصلان، أثار ادعاء كولونيل في الجيش الأميركي الذعر، عندما قال إن طائرة مسيَّرة تعمل بالذكاء الاصطناعي قتلت مسيِّرها خلال محاكاة افتراضية لأنه منعها من تدمير أهدافها، ثم عادت ودمرت أبراج الاتصال معه حين مُنِعَت من قتله.
نفى الجيش الأميركي هذا الادعاء لاحقًا، إلا أن الخبر كان قد انتشر بالفعل مدفوعًا بالاستعداد المسبق لدينا للذعر، وبحقائق أخرى كالميل في السنوات الأخيرة لتحويل القتل إلى مسألة غير شخصية تحصل عن بعد. ولأن التسويق اليوم للذكاء الاصطناعي يجري عبر تهويله والترهيب منه، كما يفعل المدير التنفيذي لأوبن إيه آي سام آلتمان، فإن تقصي الحقيقة يصبح مجهودًا عسيرًا و"فرصة" لتلبية حاجة سوق شره من جهة أخرى. ضمن هذا السياق يحضر الوثائقي Unknown: Killer Robots من إنتاج نتفليكس.
يبدأ الوثائقي مع مجموعة من الدرونز المسيرة بالذكاء الاصطناعي في مهمة تدريبية لتمشيط منطقةٍ، بما فيها من مسلحين وعتاد. هنا نتعرّف إلى براندون تسينغ، الجندي السابق في البحرية الأميركية ومؤسس الشركة المصنّعة لهذه المسيّرات. يظهر تسينغ طوال الفيلم، مستعرضاً مهاراته في التسويق العسكري وضرورة توظيف الذكاء الاصطناعي في المعارك لأسباب تراوح بين تجاربه الأليمة وفقدانه لرفاق السلاح، وصولًا إلى خطاب "ماذا لو تسلّح العدو قبلنا" الذي ساهم تاريخيًا في تنشيط هذه الصناعة.
نتعرّف خلال الفيلم أيضًا إلى جزئيات مرعبة أخرى، ونتابع كيف تمكّنت مجموعة من العلماء، في أثناء بحثهم في قدرة الذكاء الاصطناعي على إحداث الضرر، من التوصل إلى أكثر من 40 ألف جزئية سامّة يمكن استعمالها لتصنيع الأسلحة الكيميائية بكل سهولة ومن دون الحاجة إلى كومبيوترات معقدة. بينما يستعرض الفيلم أيضًا مجموعة من المخضرمين البشريين الذين يهزمهم الكومبيوتر بكل سهولة في ألعاب الطاولة وحتى المعارك الجوية، في إعادات سريعة الوتيرة لهزيمة كاسباروف الشهيرة أمام الكومبيوتر "ديب بلو"، ليميل في نهايته نحو مخاطر كسر الاحتكار البشري للقتل وتركه لمجموعة من الآلات لتقرره.
باختصار، ينجح الفيلم بجدارة في نشر الرعب. فرغم أن مدة الفيلم لا تتجاوز الساعة وبضع دقائق، إلا أن المرور السريع على مسوقي الحروب هؤلاء من جهة، ومعاينة المشهد العام الذي يقدمه الفيلم وطرق الهلاك المتعددة التي يمكن للآلة أن توفرها من جهة أخرى يكفل أن تترك هذه الساعة انطباعًا مرًا لكل من يتابع الفيلم، ما لم يكونوا مطلعين شديدي الاهتمام بهذه المسألة. وبسذاجة كاملة، يمكن لأحدنا الرهان على هذا النوع من المشاعر كمحرك لتغيير ما. لا شك أن الجمهور حين يعرف وجود كل هذه السبل للفتك به سيبدي رد فعلٍ ما وسيهرع لإحداث تغيير، بطريقة أو بأخرى. إلا أن هذا الافتراض بالذات يوضح قصور الرعب، لا بل الدور السلبي الذي يمكن أن يلعبه.
يعالج الفيلم قضية ساخنة كما أسلفنا، ما يكسبه نقطة في اختياره للموضوع، قبل أن يبدأ خسارة النقاط في بقية التفاصيل. ففي فيلمٍ قصير نسبياً، تصبح كل دقيقة مهمة بحد ذاتها ويصبح التساؤل عن توظيفها ضروريًا. فمقابل كل الخبراء العسكريين (الذين يمكن بالكاد ملاحظة الاختلاف في ما يقولونه)، يبدو الصوت الآخر في الفيلم ضعيفًا ومعزولاً عن الحجج والادعاءات ليواجه غريمه.
وحتى خلال لحظاتٍ يحاول فيها الفيلم الوثائقي شرح الهوّة بين تقديم المخيلة الشعبية للروبوتات القاتلة، في أعمالٍ مثل "تيرمينيتر" أو "آي روبوت"، وما هي عليه في الواقع، نلحظ أن تركيب المشاهد التي يفترض أن تقول الحقيقة، والموسيقى التي تتداخل فيها لا تكاد تختلف عمّا نشاهده في الأعمال الشعبية المتخيلة.
يشترك كل ضيوف "الطرف الآخر" بتقديمهم لحجج شبيهة، ترتكز على الشعور بالخوف والقلق أو الإشارة إلى العواقب الوخيمة لاستعمال هذه الأسلحة.
تنتج هذه المعادلة غير المتوازنة خطابًا يمكن أن نلخّصه بالشكل الآتي: "الروبوتات القاتلة قوية ومهيبة وخوفنا دليل على ذلك. وقد تكون سيئة أيضًا، إلا أن العدو يمكنه الوصول إليها بكل حال. فما العمل؟" وبالعودة إلى ما قاله ناشط أفغاني في الشريط، يمكننا تخيّل إجابة على شاكلة: إن كانت هذه الأسلحة ستضرب قريةً ما، فالأفضل ألّا تكون قرانا نحن. فقط.
لا يمكن معاملة هذا الوثائقي، بحد ذاته، كعامل حاسم في تغيير الرأي العام أو تحريكه في أحد الاتجاهات، فهو بعد كل شيء مجرد مادة أخرى في بيئة اتصالية سريعة وموضوعٍ ساخن، ويجب أن تسير مراجعته وفق هذا المنطق. يمكن حينها القول إن "الروبوتات القاتلة" وثائقي يعمل بسرعة على مد المشاهد بما فاته من تطورات أخيرة، ولفت نظره إلى مسائل لم يكن يعلمها.
أما ما يلي هذه المحاولة لزجّ المتفرج في "الحاضر"، فهو خطاب يحضر في الفيلم، بقصد أو من دون قصد، وعلى ألسنة المعلقين وفي وسائل الإعلام وكلمات الرؤساء التنفيذيين، ويلعب خلاله الخوف دورًا معاكسًا يكرّس ما يحاول في الواقع التصدي له.
وينقله من مسألة راهنة ذات أبعاد سياسية واقتصادية وتكنولوجية، بما تستوجبه من تأنٍّ وعمق في التحليل، إلى ما يشبه الأمر الواقع الذي لا ينفع معه إلا التقبل على مضض، في غيابٍ كامل لأي أسئلة عن العنف نفسه (قبل التفكير بمن يحتكره) وببديهيات مثل الصناعة العسكرية ورأس المال الذي يسيّر ويصوغ شكل التطور التكنولوجي، والتي نتوقعها عادةً من الأعمال الوثائقية، ولا سيما تلك التي تعالج موضوعات بهذه الحساسية.