يعيش البنك المركزي الجزائري ضغوطاً غير مسبوقة، في ظل معضلة دستورية أدت إلى خلو منصب محافظ البنك منذ ما يقرب من شهر، ما أثار تساؤلات كثيرة حول مصير بعض الإجراءات الحاسمة، مثل تمويل عجز الموازنة العامة للدولة، عبر طباعة النقود، الذي لجأت إليه الحكومة منذ نحو عام ونصف العام، في ظل تراجع مواردها المالية إثر هبوط أسعار النفط.
ومنذ 20 مارس/آذار الماضي، تسير أعمال "المركزي" من دون محافظ، بعد تعيين المحافظ السابق محمد لوكال وزيراً للمالية في حكومة تصريف الأعمال التي يقودها نور الدين بدوي، وعيّنها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة قبل استقالته.
وفي معظم دول العالم ينظر إلى محافظ البنك المركزي على أنه المنصب المالي الأبرز في الدولة، وكثيراً ما يكون محط أنظار المؤسسات المالية الدولية، لا سيما صندوق النقد الدولي، في حال إجراء أي تقييمات أو مفاوضات ائتمانية.
وقال عبد الرحمان بن خالفة، وزير المالية الأسبق، لـ"العربي الجديد"، إن "القطاع المالي يعيش حالة من الفراغ، بعد تعيين محافظ المركزي في منصب وزير المالية، وبالتالي أصبح البنك يعيش حالة استثنائية تؤثر حتما على سير العمل داخله".
إشكالية دستورية
وأوضح بن خالفة أن "بقاء الحال على ما هو عليه سيؤخر الكثير من القرارات المالية المهمة في هذه المرحلة، خاصة ما يتعلق بإدارة احتياطي النقد الأجنبي، وتدبير الموارد المالية اللازمة للاستيراد، وتحديد سعر صرف الدينار الجزائري مقابل العملات الأجنبية، بالإضافة إلى قضية مهمة أخرى، وهي طباعة الأموال التي اعتمدتها الحكومة نهاية 2017 لتمويل الخزينة العمومية عن طريق الاقتراض من المركزي".
وأضاف أن حكومة تصريف الأعمال الحالية، وكذلك الرئيس بالنيابة، لا يملكان صلاحية تسيير ملف طباعة الأموال، بينما اعتمدت الدولة بشكل كبير على هذا الإجراء في توفير سيولة مالية للمؤسسات، خلال أكثر من عام ونصف العام. وأشار إلى أن ما يؤرق الكثير من العاملين في القطاعات المالية، هو وجود مانع دستوري يحول دون تعيين محافظ جديد للبنك المركزي، موضحا أن استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أدخلت البنك في إشكالية "دستورية"، حيث يحصر دستور 2016، عملية تعيين المسؤولين في المناصب الحساسة، في رئيس البلاد المنتخب، ومن بين هذه المناصب محافظ البنك المركزي.
وأضاف أن "الدستور لا يعطي نفس الصلاحية للرئيس بالنيابة، وبالتالي فإن الفراغ في أعلى السلم الوظيفي للبنك المركزي يعتبر خطراً على المنظومة المصرفية".
وأقر البرلمان الجزائري، يوم الثلاثاء الماضي، تعيين رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح رئيسا للدولة لمدة 90 يوماً، وفقا للمادة 102 من الدستور.
عدم السيطرة على طباعة النقود
وقال أحمد كاصيف، المسؤول في دار النقود التابعة للبنك المركزي، إن "عملية طباعة النقود لا تتم إلا بتوقيع محافظ البنك، ثم يحول الطلب إلى دار النقود حتى يوقعه الأمين العام للدار، وذلك لتحمّل المسؤولية، لأن طباعة النقود توجه كقرض وليس طباعة عادية تتم بناءً على توازنات الأسواق المالية أو لتعويض كتل نقدية تالفة بمرور السنوات".
وأضاف كاصيف، لـ"العربي الجديد"، أن "آخر طلب تلقّاه البنك المركزي لطباعة النقود يعود إلى مطلع يناير/كانون الثاني الماضي، بما يعادل 10 مليارات دولار، وجاءت في موازنة 2019، وصادقت عليها الحكومة والمحافظ السابق، لكن الأمر توقف منذ ذلك الحين".
وكانت الحكومة قد تبنّت، نهاية 2017، مجموعة من التدابير المتعلقة باللجوء إلى ما يُعرف بـ"التمويل غير التقليدي"، لسد عجز الموازنة العامّة وتحريك عجلة الاقتصاد، في ظل الصعوبات المالية التي تواجهها الدولة مع تراجع أسعار النفط وانخفاض عائداته.
ونشر البنك المركزي، يوم الأحد الماضي، تقريراً حول عملية طباعة الأموال وإقراضها للخزينة العمومية، يلقي بالمسؤولية في هذا الإجراء على حكومة أحمد أويحيي المقالة والمحافظ السابق للبنك المركزي محمد لوكال، الذي دافع عن التمويل غير التقليدي.
وقال البنك المركزي، في تقريره الذي اطلعت عليه "العربي الجديد"، إن "خبراء البنك اقترحوا على الحكومة اللجوء إلى حلول مالية أخرى، لتفادي انعكاس هذه الآلية من التمويل على التضخم العام للبلاد، من خلال طرح سندات دين داخلي تفتح أمام الجزائريين والأجانب، أو عن طريق امتصاص الأموال المتداولة في خارج شريان البنوك بالطرق المعروفة عالمياً، إلا أن الحكومة فضلت الحلول السهلة".
وحسب التقرير، فإن "هذا الإجراء أثر سلباً على السياسة المالية العامة للدولة، وتعليق العديد من المشاريع"، مضيفا أن "الوضع المالي في الجزائر يختلف جملة وتفصيلا عن العديد من الدول التي انتهجت هذا النمط من التمويل المالي للخزينة. كما أن الحكومة عجزت عن التحكم في الحجم المطبوع من النقود، حيث كان مقررا طبع ما يعادل 55 مليار دولار في 5 سنوات، إلا أن البنك المركزي طبع 60 مليار دولار في ظرف 15 شهراً فقط".
تآكل احتياطي النقد الأجنبي
وبالتزامن مع هذه الإشكالية، يتزايد القلق أيضا من ارتباك الرقابة على القطاعات المالية، وهو الدور الرئيسي للبنك المركزي في مثل هذه الظروف. بينما أعلنت وزارة المالية، قبل ثلاثة أيام، عن استحداث "لجنة لليقظة" مهمتها متابعة ومراقبة عمليات تحويل الأموال إلى الخارج، تتشكّل من موظفين كبار في وزارة المالية وممثلي بنك الجزائر المركزي وكذلك ممثلي المنظومة البنكية (جمعية البنوك والمؤسسات المالية).
وتتمثل مهمة هذه اللجنة في التحقق من أن عمليات تحويل الأموال بالعملة الصعبة من قبل البنوك، بصفتها وسيطاً معتمداً، يتم تنفيذها في ظل الاحترام الصارم للتنظيم المتعلق بالصرف المعتمد من قبل بنك الجزائر.
وقال عبد الهادي فاروق، مسؤول العلاقات الخارجية في بنك التنمية الحكومي، لـ"العربي الجديد"، إن "المركزي هو من يقرر متى وكم يسحب من احتياطي النقد الأجنبي، ويراقب تطور السياسة النقدية، من خلال تدفق الأموال وخروجها من البنوك، ويتدخل لإحداث التوازن تفاديا لأزمة السيولة، كما هو الحال اليوم مع ارتفاع الطلب على الأموال، وكل هذا يكون للمحافظ الكلمة الأخيرة فيه، خاصة فيما يتعلق بتحديد قيمة الدينار تماشيا مع العملات الأجنبية".
وتشير توقعات الحكومة إلى استمرار تآكل احتياطي النقد الأجنبي، ليصل في نهاية العام الحالي إلى 79.7 مليار دولار، ثم 76 ملياراً في 2020، و33.8 ملياراً نهاية 2021، بينما كان قد تجاوز 194 مليار دولار نهاية 2013.