عرفه عالم السيارات بمنقذ العملاق الألماني "فولكسفاغن"، وعبقري صناعة المركبات.. إنه فرديناند بيتش، الذي توفي قبل يومين عن عمر يناهز 82 عاماً، بعد حياة حافلة بالتحدي والإنجازات، وربما أيضاً التجاوزات.
ما حققه بيتش خلال حياته جعل منه أحد أكبر المؤثرين في الصناعة في العالم، بما تميز به من قوة شخصية، وربما قسوة، حتى أن أغلب من يذكرونه الآن لن يكونوا من المحبين، إلا أن هذا لم يكن مما يعمل له الرجل أي حساب!
وفي حين يعرفه أغلب الناس باعتباره القائد الذي نجح في تحويل مجموعة فولكسفاغن من شركةٍ شبه فاشلة إلى أكبر مُصَنع للسيارات في العالم، إلا أن سجل الرجل يمتلئ بإنجازات أخرى، مما لا يمكن تجاهله.
في بداية حياته، عمل بيتش، حفيد فرديناند بورش، الذي كان من أساطير صناعة السيارات في وقته، في مجموعة بورش لفترة، قبل أن يتركها بعد اتفاق تم داخل الشركة على ألا يشارك أي من أفراد عائلة بيتش أو بورش في العمليات اليومية لـ "بورش".
انتقل بيتش، بعد هذا الاتفاق، إلى شركة أودي الناشئة، ليقوم بمفرده تقريباً بنقل الشركة من مجرد علامة تجارية صغيرة غير معروفة، إلى واحدة من أكبر منتجي السيارات المرموقة في العالم، حتى إنها أصبحت منافساً كبيراً لسيارات مرسيدس وبي أم دبليو الألمانيتين.
وفي عام 1993، انتقل بيتش إلى فولكسفاغن رئيساً تنفيذياً، وليتنقل بين العديد من المناصب والمسؤوليات داخل المجموعة، على مدار ما يقرب من عقدين من الزمان، قبل أن يتركها في 2015، بعد ما اصطلح على تسميته "فضيحة ديزل-جيت"، التي أظهرت تعمّد الشركة برمجة ملايين السيارات، من أجل إظهار نتائج غير حقيقية لاختبارات انبعاث العادم.
لم يقنع بيتش أبداً باحتلال المركز الرابع في صناعة السيارات في ألمانيا، بعد مرسيدس وبي أم دبليو وبورش، ولكن كانت عينه دائماَ على المركز الأول عالمياً. وعندما فشلت جهوده في لحاق السيارة فولكسفاغن بمرسيدس، قرر بيتش شراء السيارة البريطانية الشهيرة بنتلي، ليحييها ويحقق بها أحلامه في صناعة سيارة فارهة.
واستحوذ بيتش أيضاً على لامبورغيني، ليجعل منها منافساً حقيقياً لفيراري، واشترى السيارة الفرنسية بوجاتي، صاحبة التصميمات الرائعة للسيارات الرياضية. وأصبحت بورش، التي استحوذت عليها فولكسفاغن، تحت قيادة بيتش، هي السيارة الفارهة الأقرب للمستهلك المتوسط، وأحد أهم مصادر الربحية للمجموعة.
كما اشترت فولكسفاغن، تحت قيادة بيتش، السيارة سكودا، والتي كانت من قبل مثار سخرية المعادين للشيوعية، لتصبح الآن رمزاً لكبرياء الدولة التشيكية، وثاني أكبر هامش ربح داخل المجموعة الألمانية العملاقة، صاحبة العلامات التجارية المتعددة.
لكن نجاحات بيتش لم تأت بلا خسائر، حيث عُرف الرجل بعنفه الشديد مع من عملوا معه، وكان لا يتحدث عن المنافسة أبداً، وإنما عن الحرب في صناعة السيارات.
ودفعه طموحه الكبير، الموروث عن جده بورش، الذي صنع السيارة فولكسفاغن، أي "سيارة الشعب" باللغة الألمانية، تنفيذاً لرغبة الزعيم النازي أدولف هتلر، إلى إجبار الجميع على الاستماع إليه وتنفيذ ما يطلبه، من دون تفكير أو مراجعة، وهو ما أدى إلى الفضيحة التي أنهت حياته العملية قبل أربع سنوات.
وعند اختياره لرئاسة مجموعة فولكسفاغن في عام 1993، تضاربت ردود الأفعال ومشاعر العاملين في المجموعة، كما مساهمي الشركة ومجلس إدارتها والإشراف عليها.
فمن ناحية، سيطرت مشاعر البهجة على من تاقوا إلى القيادة الفاعلة داخل الشركة، بعد أكثر من اختيار ممن اكتفوا بتسيير الأعمال، بعيداً عن إحداث التغيرات المطلوبة. ومن ناحية أخرى، سيطر الوجوم على من كانوا يعرفون الجانب المظلم لنجاحات بيتش، وبدأوا في تأهيل أنفسهم لحكم الرجل الواحد، وعدم التسامح أو تقديم التنازلات، من القيادة الجديدة للمجموعة.
ويرى منافسو بيتش أن الرجل كان قوياً لدرجة أن أحداً لم يكن ليقوى على التصدي له، بما في ذلك الحكومة الألمانية.
وفي عام 1993، دفع بيتشُ ايناكي لوبيز، سيئ السمعة، إلى الاستقالة من جنرال موتورز الأميركية لصناعة السيارات، التي كان يعمل بها مديراً للمشتريات العالمية، ليعمل معه في فولكسفاغن، لتقدم الشركة الأميركية إغراءات كبيرة للشاب الموهوب، الذي قرر البقاء في الشركة، قبل أن يغير رأيه بعد فترة وجيزة، فيغادرها متجهاً إلى فولكسفاغن، ومعه مئات الأوراق السرية الخاصة بجنرال موتورز.
وفي مشاهد القضية التي شهدتها المحاكم الألمانية بدءاً من عام 1996، كان المدعون الألمان أقرب إلى هيئة دفاع عن فولكسفاغن، الأمر الذي حرم الشركة الأميركية المجني عليها من أبسط حقوقها، وأدى إلى خسارتها القضية.
وفي واقعة أخرى، وبعد انهيار سور برلين وتوحّد الألمانيتين، انتقد العديد من صناع السيارات الألمانية المنافسة لفولكسفاغن حصولها، دون الشركات الأخرى، على الموافقات المطلوبة لنقل عمليات إنتاج ضخمة إلى البلد الشرقي، رخيص العمالة، فيما تمت محاسبة العديد من المسؤولين هناك عليه بعد ذلك، بينما خرج بيتش من القضية كالشعرة من العجين!
بيتش، الذي تم اختياره في عام 1999 كرجل صناعة السيارات في القرن، والذي اعتبره الكثيرون صاحب الرؤية الثاقبة في الصناعة الأكثر صعوبة في العالم، لديه اثنا عشر ابناً، من أربع نساء.
كان بيتش القاسي الماكر، الذي لا يجرؤ أحد على معارضته، يتلعثم في الكلام، ولم يكن بارعاً في التعبير عن نفسه، إلا أن الملايين من السيارات التي ستظل تجوب الشوارع بعد وفاته، تعد أفضل تعبير عن إمكانات الرجل، وربما أيضاً عن إخفاقاته.