في محاولة لاستنساخ التجربة الخليجية العربية، أعلنت الحكومة المصرية قبل عامين تقريباً نيتها إطلاق صندوق سيادي مصري، أطلقت عليه اسم "صندوق مصر"، بهدف تحقيق التنمية المستدامة برأسمال مرخص 200 مليار جنيه، كانت تعادل وقتها أقل من 11 مليار دولار، على أن يكون الجزء المصدر منه في حدود 5 مليارات جنيه.
وخلال النصف الأول من العام الحالي، خطت الحكومة المصرية خطوة هامة لإطلاق الصندوق بإعلانها عن التشكيل الرسمي لأعضاء مجلس إدارته، وإصدار نظام العمل الأساسي به، ثم بعد ذلك بتعيين مدير له من ذوي الخبرة في إدارة الأصول، رغم ضآلة المبلغ المعلن عنه كرأسمال مصدر للصندوق.
وأشارت وزارة التخطيط إلى أن موارد الصندوق تشمل، بخلاف رأس المال المصدر، الأصول التي تنتقل ملكيتها للصندوق (!)، كما تشمل عائدات وإيرادات استثمار أموال الصندوق واستغلال أصوله (!)، بالإضافة إلى العائدات المرتقبة من إسهامه في أي من الصناديق الاستثمارية أو الشركات الأخرى (!).
تلقيت أول خبر عن إنشاء الصندوق أثناء وجودي في مكتب أحد الأصدقاء العاملين بالبنك الدولي بواشنطن، وهو متابع عن كثب للشأن المصري، فسألته أي صندوق سيادي يتحدثون عنه، ونحن نعاني من تضخم الديون، فرد بكلمتين "متلخبطين كالعادة".
حاول أصحاب الفكرة في بداية الأمر أن يروجوا لها بالإشارة إلى الصناديق السيادية في بعض الدول الخليجية، وما حققته من عوائد ضخمة، قبل أن يدركوا أن الحكومة المصرية مدينة بتريليونات الجنيهات، وعشرات المليارات من الدولارات، بينما تقوم فكرة الصناديق السيادية حول العالم على استغلال الفوائض المالية الضخمة التي لديها، والتي تتراكم سنوياً، نتيجة لتملكها ثروات طبيعية هائلة، كما هو الحال في الدول النفطية مثل الكويت والسعودية والإمارات العربية المتحدة، أو نتيجة لتوفر عباءة مالية ضخمة لكيانات تابعة للحكومة، كما هو الحال في النرويج والصين.
حددت الحكومة المصرية رأس المال المصرح به بالجنيه المصري، وأصدرت ما أصدرت منه بالجنيه المصري، وأعلن مدير الصندوق السيادي نيته رفع رأسماله إلى أضعاف القيم الحالية، وحدد هدفه بالجنيه المصري، وكل ذلك يدل على أن استثمار ما يتاح للصندوق سيكون داخل البلاد لا خارجها، وهو ما يتعارض مع تصريحات المسؤولين، ومع طبيعة الصناديق السيادية كما نعرفها.
تحدث الوزراء عن نقل ملكية بعض الأصول إلى الصندوق، وقبل أسبوع أكد مديره نقل أصول مملوكة للدولة، تقدر بحوالي 50 – 60 مليار جنيه، إلى الصندوق، ولا حظ أن الفارق في القيمة المقدرة للأصول التي ينوون نقلها للصندوق في أدناها وفي أقصاها يبلغ ضعف رأس المال المصدر، وهو ما يوضح عبثية خطط إدارة الصندوق (حتى الآن)، وعدم وضوح الرؤية، حتى بين مديريه والمسؤولين عنه.
شيئاً فشيئاً بدأت الرؤية تتضح، حيث تأكد أن الحكومة المصرية لا تنوي ضخ "سيولة فائضة" لديها، ببساطة لأنها لا تمتلك أي سيولة فائضة، وإنما تنوي تحويل ما تصل قيمته إلى عشرات المليارات من الجنيهات من الأصول إلى الصندوق، لتكون تلك القيم هي مساهمة الدولة في الصندوق، على أن تتم دعوة الاستثمارات الأجنبية للدخول فيه، وتوفير موارد أخرى له.
هذا المضمون يعني أن الصندوق المشار إليه لن يكون صندوقاً سيادياً بأي حال، وإنما سيكون في أفضل أحواله معنياً بإدارة أصول الدولة غير المستغلة، من أجل العمل على تحقيق ربحية منها، بالإضافة إلى خلق قيمة مضافة عليها، لتوليد أرباح وعوائد مالية جيدة لمصر.
هذا شيء عظيم بالتأكيد، لكن لا بد من الإقرار بذلك، ونقل تلك الحقائق للشعب ونوابه، مع توفير الآلية اللازمة لمراقبة أنشطة الصندوق، خاصةً ما يتعلق بنقل مليكة أصول الدولة إلى المستثمرين من الجنسيات غير المصرية!
أضف إلى ذلك أن إعلان الحكومة عن نقل الأصول للصندوق لم يوضح من يحدد تلك الأصول، ولا قيم وتوقيت نقلها، كما أنه لم يحدد دور السلطة التشريعية في عملية النقل تلك، وهي التي وُكل لها من قبل متابعة عملية بيع الشركات الحكومية، والموافقة عليها، الأمر الذي يوحي بأنه سيكون اختيار الشركات المنقولة للصندوق، وتحديد السعر، والطرف المشتري، من اختصاصات مدير الصندوق، أو بعض مسؤولي السلطة التنفيذية، مع غياب دور السلطة التشريعية، حتى يتم الإعلان عن غير ذلك.
وقبل أيام قليلة، احتفلت وسائل الإعلام المصرية والإماراتية بـ "أول مكاسب صندوق مصر السيادي الاقتصادية الخارجية"، بعد إعلان الدولتين عن تأسيس منصة استثمارية استراتيجية مشتركة، قيمتها 20 مليار دولار، أي أكثر من 320 مليار جنيه، للاستثمار المشترك، عبر شركة أبوظبي التنموية القابضة، وصندوق مصر السيادي.
وفي حين تظهر الإمارات قوتها النقدية، لا تتسلح مصر إلا بما لديها من أصول أعلن مدير الصندوق أنها ستتركز في مجال العقارات والآثار والسياحة، وهي المجالات التي تعد بكل المقاييس من أهم وأكثر كنوز المنطقة قيمة، مادية ومعنوية.
ومع الأخذ في الاعتبار ضعف المساهمة المادية من الجانب المصري، كما الاحتياج الدائم للاقتراض لسد عجزي الموازنة المصرية وميزان المدفوعات المصري، تكون النتيجة المتوقعة هي اضطرار الحكومة المصرية لتقديم (المزيد من) التنازلات للجانب الإماراتي، في وقتٍ تنعدم أي رقابة أو محاسبة للسلطة التنفيذية أو إدارة الصندوق، الأمر الذي يجعل من الصندوق الذي يفترض أن يكون سيادياً، أداة لزعزعة سيادة مصر على ثرواتها، لصالح من يدفع أكثر، ومن يختبئ وراءهم!