تستعد الحكومة المصرية لعرض موازنتها العامة للعام المالي القادم، الذي يبدأ في أول يوليو/ تموز 2018، وينتهي بنهاية يونيو/ حزيران من عام 2019، على مجلس النواب لاعتمادها، وسط أخبار عن مراجعة صندوق النقد الدولي لها قبل العرض.
وتبدو ملامح الجزء الأعظم من الموازنة معروفة، كنتيجة طبيعية لحقائق الوضع الاقتصادي الحالي في مصر، فمع وصول الدين العام إلى أكثر من 4.5 تريليونات جنيه، تشير التقديرات إلى أن خدمة الدين، أي الفائدة المدفوعة عليه، ستتجاوز خمسمائة مليار جنيه، وهو ما يتوقع أن يمثل حوالي ثلث نفقات الدولة، بينما يمثل أكثر من 80% من الإيرادات الضريبية المتوقعة!
ومن ناحية أخرى، فسوف تستحوذ أجور موظفي الدولة، بعد ضغوط صندوق النقد لتخفيضها، على ما يقرب من 250 مليار جنيه، وهو تقريباً نفس المبلغ الذي سيتم توجيهه لنفقات الدعم. وسيكون هذا البند الأخير صاحب أكبر قدر من الانخفاض، بعد إصرار صندوق النقد، وموافقة الحكومة المصرية، على إلغاء الدعم تماماً عن كافة أنواع الوقود، باستثناء الغاز المسال، بحلول يوليو/ تموز من العام القادم 2019، وهذا يعني أن حوالي 70% من إجمالي النفقات سيكون في واحد من هذه الاتجاهات الثلاثة، خدمة دين وأجور ودعم.
ومن الطبيعي، مع كل المديونيات الحالية، أن يتم توجيه حوالي 15% إلى 20% أخرى لسداد بعض تلك المديونيات، مع الأخذ في الاعتبار أن أغلبها يتم تجديده.
وبذلك لا يتبقى للإنفاق على الاستثمار في الخدمات الصحية والتعليم والصرف الصحي إلا أقل من 10% من إجمالي الإنفاق الحكومي، وهي العشرة في المائة التي عادةً ما يتم ضغطها، لعدم توفر الموارد، أو لعوامل أخرى منها سوء الإدارة والفساد، وهو ما يؤدي إلى أن يكون هذا هو شكل مدارسنا وجامعاتنا ومستشفياتنا، ومستوى التعليم والعلاج عندنا، وأن يظل عدد لا بأس به من أفراد الشعب لا يحصل على صرف صحي لائق، ونحن على أعتاب العقد الثالث من الألفية الثالثة.
الصورة الكئيبة التي أنقلها ليست ناتجة عن ضعف الموارد المتاحة، وكلنا يعلم ما حبا الله به مصر من موارد طبيعية وامتيازات جغرافية غير موجودة في أغلب دول العالم، ولا هي ناتجة عن سوء إدارة (فقط).
فقد ثبت أنهم يستطيعون إدارة أي شيء، بدءاً من أكشاك بيع السكر والأرز والجمبري، وحتى الانقلابات العسكرية، داخل وخارج البلاد، ومروراً بأي مشاهد انتخابية مطلوبة، سواء كانت إيجاد مرشح منافس لا يفكر في انتخابه حتى أشد أعداء النظام الحالي سخطاً عليه، أو "حشد المواطنين" لإخراج مشهد مسرحي هزيل. لكن الواقع يقول إن المشكلة الحقيقية تكمن في ترتيب أولويات الحكومة، التي تقدم أولوياتها على مقتضيات الصالح العام للشعب، وبصورة تحرج أخلص مؤيديها.
مشاهد اختلاف ترتيب الأولويات بين الحكومة والشعب واضحة ومتكررة. أولها كان استنزاف ما يساوي نصف احتياطيات النقد الأجنبي في عام 2014، حوالي ثمانية مليارات من الدولارات، في ما أطلق عليه مشروع قناة السويس الجديدة، الذي لم يحقق زيادة تذكر في الإيرادات، إلى أن فوجئنا بأن الغرض الحقيقي من حفرها كان محاولة جمع المواطنين حول مشروع قومي.
بعد ذلك كانت صفقات شراء طائرات الرافال الفرنسية، والغواصات الألمانية، وأسلحة أخرى من الولايات المتحدة وروسيا، فيما يسمى صفقات "شراء الشرعية"، في وقت تئن فيه البلاد تحت وطأة انخفاض ملحوظ في مستويات المعيشة، بفعل تعويم العملة المحلية وفقدانها حوالي 60% من قيمتها.
وكانت النتيجة الطبيعية اللجوء للاقتراض من "اللي يسوى واللي ما يسواش"، فتزيد الفوائد المدفوعة، ونتنازل عن جزر، ثم نتجه لبيع الشركات الحكومية. ولم يتوقف سوء ترتيب الأولويات عند ذلك الحد، وإنما امتد ليشمل الاستثمارات الضخمة الموجهة لمشروعات يصعب التأكد من جدواها حالياً، مع توجيه الإنفاق الاستثماري نحو المباني، وبعيداً عن الاستثمار في البشر أو في الخدمات التعليمية والصحية المقدمة لهم.
ولما كانت الشعوب تنتخب حكامها لظنها فيهم أنهم الأجدر على تنفيذ ما تعتبره الشعوب أولوية لها، وتنتخب البرلمان لأنه الأجدر على مراقبة الحكومات وتوجيهها لما فيه الصالح العام، ونظراً لما نشهده حالياً من اختلاف الأولويات، وربما تعارضها، ما بين الشعب من ناحية، والحكومة وبرلمانها من ناحية، فربما توجد الحاجة الآن لإطلاق "برنامج أولويات الوطن".
فيتشكل فريق إدارة هذا البرنامج غير الحكومي من قيادات اقتصادية وإدارية مشهود لها بالكفاءة والحياد، وهم معروفون لأغلبنا وموجودون على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ولهم آراء في كل القضايا الاقتصادية المعاصرة، على أن تكون مهمة هذا البرنامج توضيح الحقائق، في ضوء الأرقام والموارد المتاحة، من أجل ترتيب الأولويات الترتيب الذي يحقق الأمان الاقتصادي للمواطنين، مع توفير حد أدنى لائق من الخدمات التعليمية والصحية.
أعضاء هذا الفريق سيقومون بمراقبة الإنفاق الحكومي، ومناقشة بنود الموازنة وأولوياتها، والاقتراض الخارجي وتكاليفه، والدين العام وسقفه، وربما نطمع في مرحلة لاحقة في مناقشة الإنفاق العسكري!
وبالتأكيد سيقوم أعضاء هذا الفريق بمناقشة برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي اتفقنا/أجبرنا عليه، لكن أهم ما سيوفره هذا الفريق هو فتح باب النقاش المجتمعي، بدون أي أسقف، من أجل الوصول إلى أفضل ما يمكن عمله بمواردنا المحدودة.
فلا يليق بالشعب المصري أن يتقاعس ويسكن، مع كل ما نراه من استنزاف للموارد وضياع للحقوق، ولن تكون محاربة الإرهاب سبباً كافياً لإغفال عدم الرشاد في اتخاذ القرارات الاقتصادية، مع ما تخلفه من أوضاع كارثية، لا يمكن تحمّلها، وبعضها لا يمكن إصلاحه مستقبلاً، وربما يمثل هذا البرنامج بداية حقيقية لطريق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
يحق للشعوب أن تعرف، ويحق لها أن تقرر وتختار، وربما تخفف المعرفة من غضب المواطنين من قرارات الإصلاح الاقتصادي التي يتم فرضها علينا.