لا يوجد رقم مدقق في مصر يحدد بدقة الخسائر التي يتعرض لها مرفق مترو الأنفاق بالعاصمة القاهرة، فالخسائر والأرقام تحدد حسب "مزاج" المسؤول والمناسبة التي يتحدث بها.
فإذا كان التصريح تمهيدا لقرار حكومي بإجراء زيادة كبيرة في أسعار التذاكر، كما جرى مساء الخميس الماضي، فالخسائر هنا تقدر بمئات الملايين وربما تفوق النصف مليار جنيه.
وإذا كان المسؤول في حال "روقان"، أو يتحدث أمام لجنة فرعية بالبرلمان أو في ندوة علمية، فالخسائر لا تتجاوز رقم 25 مليون جنيه شهريا وبما لا يزيد عن 200 مليون جنيه سنوياً.
وفي ظل عدم دقة الأرقام الرسمية فإن فرضية عدم تكبد المترو خسائر من الأصل تظل قائمة ولا يجب استبعادها، خاصة مع الإيرادات الضخمة له من التذاكر والاشتراكات والإعلانات.
لنصدق أن خسائر مترو الانفاق تصل إلى ما بين 20 و25 مليون جنيه في الشهر الواحد كما قال أحمد عبدالهادي، المتحدث باسم شركة مترو الأنفاق يوم 12 يناير 2017.
ولنصدق كلام هشام عرفات وزير النقل، الذي قال إن شركة مترو الأنفاق تكبدت خسائر الفترة الماضية حوالي 630 مليون جنيه، رغم عدم تحديد الوزير فترة زمنية لهذه الخسائر، وما إذا كانت تمتد لسنوات أم سنة واحدة.
ولنصدق أيضا تصريحاً أخر للوزير يقول فيه إن المترو يحقق خسائر سنوية 200 مليون جنيه، فضلاً عن الديون المتراكمة عليه لدى عدد من الوزارات والشركات والتي وصلت إلى 500 مليون جنيه.
ولنصدق كلام المتحدث الرسمي لوزارة النقل، محمد عز، الذي قال إن قرار زيادة سعر تذكرة المترو جاء بسبب الخسائر التي بلغت 618 مليون جنيه، وإن نسب العجز في الصيانة بلغت 94%، علما بأن هذا المسؤول ترك كلامه عائما، فلم يحدد بدقة، هل هذه خسائر متراكمة أم خسائر سنة واحدة.
ولنصدق الشائعات التي أطلقتها وزارة النقل مؤخرا حول تزايد مديونيات شركة مترو الأنفاق، والبالغة 480 مليون جنيه، حتى أجبرت الشركة لاقتراض رواتب الموظفين من هيئة السكك الحديدية كما تقول.
سنصدق كل الأرقام الرسمية والشائعات التي تتحدث عن خسائر مترو القاهرة رغم أن الجزء الأكبر منها يرجع لقرارات حكومية مثل زيادة أسعار الوقود والكهرباء والتضخم وتعويم الجنيه المصري مقابل الدولار، وهو ما رفع من تكلفة تشغيل وصيانة وتحديث المترو.
كما يرجع جزء آخر من هذه الخسائر لسوء الإدارة وعدم استغلال أصول هذا المرفق الحيوي بشكل اقتصادي، فبدلاً من تأجير أرصفة محطات المترو لفروع صغيرة للبنوك وشركات التأمين والإعلانات والأندية الرياضية والمحال التجارية مقابل عقود سنوية، يتم تركها ساحة للباعة الجائلين.
لنفترض أن خسائر المترو السنوية 200 مليون جنيه، وهو رقم حديث جاء على لسان وزير النقل، فإن السؤال هنا هو : هل عجزت إدارة المترو عن تدبير هذا المبلغ من خلال استغلال أصول المرفق خاصة الواقعة في أماكن حيوية مثل ميادين : التحرير والمعادي ورمسيس والعباسية وقصر القبة والجيزة وغيرها؟
وهل عجزت هذه الإدارة عن إقناع عدد من البنوك بفتح فروع لها داخل محطات المترو الرئيسية لبيع خدماتها المصرفية والمالية، علما بأن إبرام عقد واحد مع أحد البنوك الحكومية الكبرى يمكن أن يغطي مثل هذه الخسائر السنوية.
ولنفترض أيضا أن إدارة المترو عاجزة عن الإبداع والابتكار وإيجاد حلول للأزمات القائمة، هل عجزت الموازنة العامة عن تحمل هذا المبلغ الصغير جدا مقارنة بإيرادات حكومية تتجاوز الألف مليار جنيه، وهل عجزت وزارة المالية عن تخصيص جزء بسيط من الضرائب التي يتم جمعها من المصريين والبالغة 706 مليارات جنيه في العام المالي الجاري؟
ولنفترض ثالثا أن وزارة المالية وإدارة المترو عاجزتان عن تغطية قيمة الخسائر، هناك وسائل أخرى يمكن من خلالها تدبير المبلغ، مثلا نجد أن توفير تكلفة قصر رئاسي جديد تتم إقامته في العاصمة الإدارية الجديدة أو مدينة العلمين أو غيرها من الأماكن يمكن أن يغطي خسائر المترو لعشرات السنوات.
دعنا من القصور الرئاسية، ولنأتِ لحل أخر وهو تكلفة السجون التي تم التوسع في إقامتها بشكل قياسي خلال السنوات الخمس الأخيرة وتبلغ مليارات الجنيهات.
إن كلفة سجن واحد هو سجن جمصة بمحافظة الدقهلية يمكن أن يرحم المصريين من الزيادات الأخيرة في أسعار التذاكر لسنوات، فالسجن تم إنشاؤه على مساحة 42 ألف متر مربع، بتكلفة بلغت نحو 845 مليون جنيه ويستوعب نحو 15 ألف سجين.
كما شهد عام 2015 فقط، بناء 5 سجون جديدة شيدتها وزارة الداخلية بتكلفة 1.2 مليار جنيه، وهو مبلغ يغطي خسائر المترو لنحو 6 سنوات.
ولنا أن نتخيل حجم الأموال التي يمكن أن توفرها موازنة الدولة في حال التوقف عن إقامة سجون جديدة والتي رفعت عدد السجون في البلاد إلى 45 سجنًا مقابل نحو 20 سجنا فقط في عام 2013.
كما لنا أن نتخيل حجم التكلفة الضخمة المخصصة لإقامة هذه السجون والتي جاءت على لسان رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، حافظ أبو سعدة،، الذي قال لموقع "قدس برس إن النظام وضع خطة لبناء عشرة سجون جديدة تُقدر تكلفتها بحوالي 1.2 مليار دولار، أي ما يزيد عن 21 مليار جنيه.
إن إقامة سجون جديدة تستهلك آلاف الأفدنة من الأراضي الزراعية ومليارات الجنيهات من موازنة الدولة، وبدلا من إنشاء سجون مركزية جديدة في دولة مأزومة اقتصاديًّا يمكن توجيه هذه الأموال لتحسين الخدمات المقدمة للمصريين ومنها المواصلات العامة كالمترو.
لو أردنا إراحة ملايين المصريين الذين تضرروا من قرار الزيادة الأخيرة في أسعار مترو الانفاق لتوقفنا فقط عن بناء أحد السجون الجديدة، أو جمدنا مشروع تشييد قصر جمهوري جديد في مدينة العلمين أو بالعاصمة الإدارية الجديدة، أو فتحنا ملف التهرب الضريبي لواحد فقط من الكبار، علما بأن رقم التهرب الضريبي يبلغ نحو 250 مليار جنيه سنويا بشهادة كبار المسؤولين بمصلحة الضرائب.