انتهت اجتماعات الخريف للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في واشنطن، وخرجت العناوين رائعة وبراقة، من نوعية "الاستقرار المالي العالمي يواصل التحسن، والانتعاش الاقتصادي يتسع، والأسواق مزدهرة"، واختص صندوق النقد العرب بالمزيد من المديح، فأثنى على إجراءات الإصلاح الاقتصادي، وإصلاح أسعار الطاقة، وهو ما يعرف في بلادنا برفع الدعم عن مصادر الطاقة، وخطوات إصلاح المالية العامة، وهو ما يُتَرجم بترشيد الإنفاق الحكومي.
تَوَجَّهَت بالنداء للرجل في الشارع*
"سيدي، أيمكنك مساعدتي؟
الجو بارد وليس لدي مكان للنوم،
هل هناك مكان يمكنك أن تخبرني به؟"
في الثامنة صباحاً تتوقف مواكب السيارات الفارهة أمام مبنى البنك أو الصندوق في شارع H بواشنطن، فيترجل منها الوزراء ورجال البنوك من الدول المشاركة في الاجتماعات، ليدخلوا المباني المحصنة برجال الأمن عند كل باب، ولا يسمح لمخلوق بالدخول ما لم يكن معه التصريح السحري الذي يفتح كل الأبواب.
يحاول هؤلاء تلافي النظر تجاه الضفة الأخرى من الطريق، ولو نظروا لوجدوا الحديقة الجميلة التي يطل عليها البنك الدولي، وقد امتلأت عن آخرها برجال ونساء ممن لا منزل لهم Homeless، وقد افترشوا المقاعد في الحديقة، والتحفوا أوراق الشجر الساقطة، في صباح أحد أيام بدايات خريف جاء متنكراً في صورة شتاء موحش، وفي الخلفية على الناحيتين صفارات الإنذار تنطلق من عربات الشرطة التي تنطلق في المكان جيئةً وذهاباً، لتفادي حدوث ما قد يعكر صفو الحفل.
يمشي، لا ينظر إلى الوراء
يدعي أنه لا يستطيع سماعها
يبدأ التصفير أثناء عبور الشارع
يشعر بالحرج لوجوده هناك
خرجتُ من محطة مترو الأنفاق وتوجهتُ إلى البنك الدولي كما اعتدتُ أن أفعل أغلب السنوات العشر الماضية، فقد كنت أعتبر أن اجتماعات البنك والصندوق السنوية هي بمثابة "كأس العالم في الاقتصاد"، وكنت أحرص على حضور المباريات للتعلم واكتساب الخبرة، ولمعرفة أحدث طرق اللعب، وربما للاطلاع على آخر خطط الدفاع والهجوم في عالم الاقتصاد.
للوصول إلى مقر البنك الدولي، قادماً من محطة المترو، كان يتعين عليَّ أن أمر داخل الحديقة. دخلتها وقد اتجه نظري ناحية مبنى البنك الدولي، لعلي ألمح جانيت يلين أو ستيفن منوشن، ميسي ورونالدو عالم الاقتصاد الأميركي حالياً، وبالتالي العالمي، لكن لم يحدث.
بدلاً من ذلك جاءت عيني في عين أحد سكان الحديقة، وقد استيقظ للتو من نومه، وأخذ ينظر حوله بشراسة لم تنجح في إخفاء ملامحه الطيبة، ليعرف مَنْ مِنْ هؤلاء الأوغاد تجرأ على دخول حجرة نومه وإحداث كل هذه الضوضاء. ابتسمت له لما التقت أعيننا وألقيت عليه التحية.
ردها وطلب مني في خجل كوب القهوة الذي كان في يدي وقد اشتريته للتو من ستاربكس. ترددت للحظة ثم أعطيته له فابتسم غير مصدق. سبحان الذي يوزع الأرزاق، ويخلق لهذا الرجل، في ظروفه تلك، من يأتي له بكوب القهوة الساخن حتى فراشه.
أوه...فكر مرتين، إنه يوم آخر لك ولي في الجنة.
أوه...فكر مرتين، لأنه مجرد يوم آخر بالنسبة لك،
أنت وأنا في الجنة، فكر بالأمر.
في اجتماع البنك الدولي، عرض الخبير لوحة تستعرض تفاوت الثروات والدخول في عالمنا المعاصر.
احتلت الولايات المتحدة الأميركية قمة الجدول، حيث احتفظ الـ10% الأعلى فيها بما يقرب من 80% من ثروة البلد، وحققوا ما يقرب من 30% من الدخول المحققة فيها.
وجاءت بعدها النمسا وهولندا وألمانيا، واعتذر الرجل لعدم توفر بيانات عن تلك النسب في العالم العربي وأفريقيا، وإن كان يعتقد أن النسب هناك ستشير لصورة أكثر مأساوية.
اعتبر الرجل أن أهم رقم صدر مؤخراً كان تقرير الرواتب الشهري الأميركي الذي صدر قبل عشرة أيامٍ تقريباً، وجادل البعض أن الرقم الأهم هو السعر الذي وصل إليه اليورو مقابل الدولار، أو سعر الين الياباني، أو اليوان الصيني، أو ربما سعر النفط، أو حجم المديونية الأميركية الذي تخطى العشرين تريليون قبل شهر تقريباً، وكل هذه الأرقام تعكس وتؤثر على النشاط الاقتصادي العالمي، ومعدلات نموه، وتكون لها تأثيرات فورية على أسواق الأسهم، وعوائد السندات، وما يطلقون عليه الازدهار العالمي.
لكن لو أردنا التحدث عن الازدهار العالمي الحقيقي، فربما يصدر رقم أكثر أهمية بعد أيام من انتهاء اجتماعات الخريف للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في واشنطن، ليوضح لنا أن ما يقرب من ثمانمائة مليون شخص، أي أكثر من 10% من سكان كوكب الأرض من البشر، يعانون فقراً مدقعاً، أو يعيشون على أقل من 1.90 دولار في اليوم، وهو الرقم الذي أقره البنك الدولي مؤخراً للفقر المدقع.
الثمانمائة مليون كانوا ملياراً وثمانمائة مليون قبل 25 سنة، وخرج مليار شخص من تصنيف الفقر المدقع بمساعدة قوية من الهند والصين، بعد أن خرج من مواطني هاتين الدولتين وحدهما ما يزيد عن 530 مليون شخص في الفترة من العام 2002 وحتى العام 2012.
ولقد وُصِفت الحكومات التي كانت في السلطة خلال هذه الفترات، بقيادة هو جينتاو وون جياباو في الصين وسونيا غاندي ومانموهان سينغ في الهند، بأنها مخيبة للآمال، على الرغم من أن أكثر من نصف مليار شخص قد نجوا من الفقر على أيديهم. ويا ليت حكوماتنا العربية كانت مخيبة للآمال بنفس القدر.
خرجت من البنك الدولي لأجد الحديقة وقد أغلقت بشريط الشرطة الأصفر الشهير، لمنع أي شخص من دخولها.
تلفتُّ حولي فوجدت شرطياً في انتظار السؤال، استفسرت عن السبب، قال: كان من الضروري تنظيف المكان. لا يصح أن يطل ضيوفنا على الحديقة وقد امتلأت بالقاذورات!
*المقاطع الغنائية لفيل كولينز
غناء، وكتابةً، ولحناً، وإنتاجاً
اقــرأ أيضاً
تَوَجَّهَت بالنداء للرجل في الشارع*
"سيدي، أيمكنك مساعدتي؟
الجو بارد وليس لدي مكان للنوم،
هل هناك مكان يمكنك أن تخبرني به؟"
في الثامنة صباحاً تتوقف مواكب السيارات الفارهة أمام مبنى البنك أو الصندوق في شارع H بواشنطن، فيترجل منها الوزراء ورجال البنوك من الدول المشاركة في الاجتماعات، ليدخلوا المباني المحصنة برجال الأمن عند كل باب، ولا يسمح لمخلوق بالدخول ما لم يكن معه التصريح السحري الذي يفتح كل الأبواب.
يحاول هؤلاء تلافي النظر تجاه الضفة الأخرى من الطريق، ولو نظروا لوجدوا الحديقة الجميلة التي يطل عليها البنك الدولي، وقد امتلأت عن آخرها برجال ونساء ممن لا منزل لهم Homeless، وقد افترشوا المقاعد في الحديقة، والتحفوا أوراق الشجر الساقطة، في صباح أحد أيام بدايات خريف جاء متنكراً في صورة شتاء موحش، وفي الخلفية على الناحيتين صفارات الإنذار تنطلق من عربات الشرطة التي تنطلق في المكان جيئةً وذهاباً، لتفادي حدوث ما قد يعكر صفو الحفل.
يمشي، لا ينظر إلى الوراء
يدعي أنه لا يستطيع سماعها
يبدأ التصفير أثناء عبور الشارع
يشعر بالحرج لوجوده هناك
خرجتُ من محطة مترو الأنفاق وتوجهتُ إلى البنك الدولي كما اعتدتُ أن أفعل أغلب السنوات العشر الماضية، فقد كنت أعتبر أن اجتماعات البنك والصندوق السنوية هي بمثابة "كأس العالم في الاقتصاد"، وكنت أحرص على حضور المباريات للتعلم واكتساب الخبرة، ولمعرفة أحدث طرق اللعب، وربما للاطلاع على آخر خطط الدفاع والهجوم في عالم الاقتصاد.
للوصول إلى مقر البنك الدولي، قادماً من محطة المترو، كان يتعين عليَّ أن أمر داخل الحديقة. دخلتها وقد اتجه نظري ناحية مبنى البنك الدولي، لعلي ألمح جانيت يلين أو ستيفن منوشن، ميسي ورونالدو عالم الاقتصاد الأميركي حالياً، وبالتالي العالمي، لكن لم يحدث.
بدلاً من ذلك جاءت عيني في عين أحد سكان الحديقة، وقد استيقظ للتو من نومه، وأخذ ينظر حوله بشراسة لم تنجح في إخفاء ملامحه الطيبة، ليعرف مَنْ مِنْ هؤلاء الأوغاد تجرأ على دخول حجرة نومه وإحداث كل هذه الضوضاء. ابتسمت له لما التقت أعيننا وألقيت عليه التحية.
ردها وطلب مني في خجل كوب القهوة الذي كان في يدي وقد اشتريته للتو من ستاربكس. ترددت للحظة ثم أعطيته له فابتسم غير مصدق. سبحان الذي يوزع الأرزاق، ويخلق لهذا الرجل، في ظروفه تلك، من يأتي له بكوب القهوة الساخن حتى فراشه.
أوه...فكر مرتين، إنه يوم آخر لك ولي في الجنة.
أوه...فكر مرتين، لأنه مجرد يوم آخر بالنسبة لك،
أنت وأنا في الجنة، فكر بالأمر.
في اجتماع البنك الدولي، عرض الخبير لوحة تستعرض تفاوت الثروات والدخول في عالمنا المعاصر.
احتلت الولايات المتحدة الأميركية قمة الجدول، حيث احتفظ الـ10% الأعلى فيها بما يقرب من 80% من ثروة البلد، وحققوا ما يقرب من 30% من الدخول المحققة فيها.
وجاءت بعدها النمسا وهولندا وألمانيا، واعتذر الرجل لعدم توفر بيانات عن تلك النسب في العالم العربي وأفريقيا، وإن كان يعتقد أن النسب هناك ستشير لصورة أكثر مأساوية.
اعتبر الرجل أن أهم رقم صدر مؤخراً كان تقرير الرواتب الشهري الأميركي الذي صدر قبل عشرة أيامٍ تقريباً، وجادل البعض أن الرقم الأهم هو السعر الذي وصل إليه اليورو مقابل الدولار، أو سعر الين الياباني، أو اليوان الصيني، أو ربما سعر النفط، أو حجم المديونية الأميركية الذي تخطى العشرين تريليون قبل شهر تقريباً، وكل هذه الأرقام تعكس وتؤثر على النشاط الاقتصادي العالمي، ومعدلات نموه، وتكون لها تأثيرات فورية على أسواق الأسهم، وعوائد السندات، وما يطلقون عليه الازدهار العالمي.
لكن لو أردنا التحدث عن الازدهار العالمي الحقيقي، فربما يصدر رقم أكثر أهمية بعد أيام من انتهاء اجتماعات الخريف للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في واشنطن، ليوضح لنا أن ما يقرب من ثمانمائة مليون شخص، أي أكثر من 10% من سكان كوكب الأرض من البشر، يعانون فقراً مدقعاً، أو يعيشون على أقل من 1.90 دولار في اليوم، وهو الرقم الذي أقره البنك الدولي مؤخراً للفقر المدقع.
الثمانمائة مليون كانوا ملياراً وثمانمائة مليون قبل 25 سنة، وخرج مليار شخص من تصنيف الفقر المدقع بمساعدة قوية من الهند والصين، بعد أن خرج من مواطني هاتين الدولتين وحدهما ما يزيد عن 530 مليون شخص في الفترة من العام 2002 وحتى العام 2012.
ولقد وُصِفت الحكومات التي كانت في السلطة خلال هذه الفترات، بقيادة هو جينتاو وون جياباو في الصين وسونيا غاندي ومانموهان سينغ في الهند، بأنها مخيبة للآمال، على الرغم من أن أكثر من نصف مليار شخص قد نجوا من الفقر على أيديهم. ويا ليت حكوماتنا العربية كانت مخيبة للآمال بنفس القدر.
خرجت من البنك الدولي لأجد الحديقة وقد أغلقت بشريط الشرطة الأصفر الشهير، لمنع أي شخص من دخولها.
تلفتُّ حولي فوجدت شرطياً في انتظار السؤال، استفسرت عن السبب، قال: كان من الضروري تنظيف المكان. لا يصح أن يطل ضيوفنا على الحديقة وقد امتلأت بالقاذورات!
*المقاطع الغنائية لفيل كولينز
غناء، وكتابةً، ولحناً، وإنتاجاً