تُصدر الحكومة المصرية خطابًا سياسيًا قبل يوليو/ تموز من كل عام، أي قبل اعتماد موازنة العام المالي الجديد، يتضمن الأعباء التي تتحملها الحكومة من أجل الوفاء بمتطلبات المجتمع من تعليم وصحة وبنية أساسية، وأن المجتمع لا يقوم بدوره في ترشيد استخدام الدعم، أو الحدّ من الزيادة السكانية التي تلتهم جهود التنمية، وأنها لا تجد مفرًا من فرض ضرائب جديدة أو اللجوء للاقتراض من الداخل أو الخارج.
لكن نظرًا لفقدان الثقة لدى المواطنين في الحكومة منذ عقود، في ما يتعلق بشأن الموازنة العامة، وأنها لا تعبّر عنها، وكذلك غياب دور الأجهزة الرقابية أو المجتمع الأهلي، فإن الحساب الختامي يمر دون حساب للحكومة، رغم أنه يتضمن العديد من المخالفات، التي من شأنها أن تحيل المسؤولين للمحاكمة، أو على الأقل تفرض عليهم احترام عقلية المواطن عند تقديم الموازنة لتكون معبّرة عما تنوي الحكومة عمله فعلًا، بعيدًا عن الدعاية الإعلامية، والحديث عن إنجازات بعيدة عن الواقع.
ويناقش مجلس النواب هذه الأيام الحساب الختامي للعام المالي 2017/ 2018. وبالاطلاع على بيانات الحساب على موقع وزارة المالية ومقارنة ما ورد به من نفقات فعلية بما هو معتمد بموازنة 2017/ 2018 نجد أن هناك فارقًا كبيرًا، ينمّ عن غياب للمسؤولية السياسية للحكومة، بل غياب لدور مجلس النواب، الذي من صلاحياته الأصيلة الرقابة على أعمال الموازنة، واعتماد الحساب الختامي.
وتعدّ المالية العامة بشكل عام والموازنة العامة بشكل خاص عصب الاقتصاد السياسي، ومن هنا نجد أن الحكومة المصرية تعمل على توظيف الموازنة العامة كل عام إعلاميًا، عبر تضخيم بعض المخصصات وخفض الأخرى، لتظهر أمام المجتمع وكأنها تسعى لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
تضخيم الاستثمارات العامة
وفق البيان المالي لعام 2017/ 2018 على موقع وزارة المالية، تشير أرقام مخصصات الباب السادس بالجدول رقم (1)، التي تنفق على الاستثمارات العامة غير المالية، أنها بحدود 135.4 مليار جنيه، إلا أن الحكومة خلال العام المالي لجأت إلى مجلس النواب وطلبت زيادة المخصصات إلى 154.7 مليار جنيه، بزيادة 19.3 مليار جنيه.
إلا أن الحساب الختامي، أظهر أن الاستثمارات الفعلية في نهاية العام، كانت أقل بكثير عن الموازنة المعتمدة، أو التعديل الذي طلبته الحكومة خلال العام المالي، إذ بلغت الاستثمارات العامة 109.6 مليارات جنيه، بزيادة نحو 500 مليون جنيه عن تقديرات الحساب الختامي لعام 2016/ 2017، إذ كانت بحدود 109.1 مليارات جنيه.
فلصالح مَن تضلل الحكومة والمجتمع، بعرض تقديرات غير حقيقية بالموازنة، ثم تطلب زيادة مخصصات، ثم تنفذ أقل مما هو مدرج أو معدل؟ فالاستثمارات العامة لها أكثر من أثر إيجابي على الاقتصاد، الذي يعاني من ركود منذ فترة، كما أن هناك مشروعات تخصّ البنية الأساسية يعاني منها المجتمع، بسبب العجز في خدماتها مثل الصرف الصحي، والمدارس.
خفض وهمي لنفقات الجيش
الباب الخامس في الموازنة العامة يتضمن ما تسمى النفقات الأخرى، وهي تضم (الجيش، والقضاء، والمحكمة الدستورية، والجهاز المركزي للمحاسبات، ومجلس النواب).
وحسب بيانات الموازنة، فإن مخصصات هذا الباب قدرت بـ 65.7 مليار جنيه، بينما طالبت الحكومة خلال العام المالي بتعديل المخصصات بالزيادة، لتكون بحدود 76.5 مليار جنيه، بينما أسفرت بيانات الحساب الختامي عن نفقات حقيقية لهذا الباب بلغت 74.7 مليار جنيه.
وهو ما يعني أن الفعلي زاد عن تقديرات الموازنة بنحو 10 مليارات جنيه. فلماذا لا تصارح الحكومة الشعب بحقيقة زيادة مخصصات الجيش وباقي مؤسسات موازنة السطر الواحد بنحو 13.2 مليار جنيه؟
والمسؤولية السياسية هنا في حق مجلس النواب أكبر، إذ يتضمن هذا الباب مخصصات المجلس، وكانت الشفافية تقتضي أن يفصح المجلس عن ميزانيته الحقيقية، في ظل حالة الديون الضخمة التي تتورط فيها مصر، في ظل حكومات السيسي بعد انقلاب 3 يوليو 2013، وبخاصة أن حجم نسبة الزيادة ليست قليلة، فهي بحدود 20%.
سوء تقدير فوائد الديون
لعل مخصصات فوائد الديون من البنود التي يجب ألا تخطأ فيها الحكومة التقدير بالموازنة العامة للدولة، لعلمها التام بحجم الديون السابقة، وما ستقوم باقتراضه خلال العام المالي، وما يتبع ذلك من فوائد وتكلفة مالية.
وحسب بيانات الموازنة المعتمدة للعام المالي 2017/ 2048، بلغت مخصصات فوائد الديون بالباب الثالث 380.9 مليار جنيه، إلا أن الحكومة طلبت خلال العام المالي تعديل المخصصات وزيادتها بنحو 57 مليار جنيه، لتسفر بيانات الحساب الختامي لنفس العام عن تكلفة فوائد الديون عند 437 مليار جنيه، أي إن الزيادة التي لم تحسن موازنة الحكومة تقديرها تصل إلى 15% من تقديرات الموازنة.
المسؤولية السياسية هنا تقع على عاتق الحكومة بشكل كبير، بسبب أنها تحاول في البيان المالي للموازنة، وكذلك الموازنة المقدمة لمجلس النواب، أن تظهر حجم الديون بأقل من قيمتها حتى تكون نسبتها للناتج المحلي أقل، وهو ما يعني أن الحكومة نجحت في تحقيق شيء إيجابي، وهو بخلاف الحقيقة.
تقطير مقصود
في الوقت الذي يمكن أن نسمي فيه تصرف الحكومة في الأبواب السابقة بالإسراف، نظرًا للتجاوزات المالية ومقارنتها بما كان مقدرًا، وخاصة في ظل الأوضاع المالية المتأزمة بمصر، نجد أن هناك تقطيرًا في مخصصات أخرى، هي متطلبات من لا يملكون محاسبة الحكومة أو مراجعة مجلس النواب، فمخصصات الأجور والمرتبات بها تجاوز لا يذكر، إذ كانت تقديرات الموازنة بحدود 239.95 مليار جنيه، إلا أن التنفيذ الفعلي في نهاية العام وصل إلى 240 مليار جنيه، أي إن التجاوز كان بحدود 50 مليون جنيه فقط لا غير.
أما مخصصات الدعم، التي تشمل شريحة الفقراء ومحدودي الدخل، فكانت أقل في نهاية العام، عما هو مقدر في حسابات الموازنة مع بداية العام المالي، ففي حين كانت مخصصات الموازنة للباب الرابع الخاص بالدعم عند حدود 332 مليار جنيه، أتت أرقام الحساب الختامي، لتظهر أن النفقات الفعلية كانت أقل من هذه التقديرات بنحو 3 مليارات جنيه، عند 329 مليار جنيه.
هذا الأداء الخاص بتصرّف الحكومة ومجلس النواب، في ما يخص الفوارق بين مخصصات أبواب الموازنة، وما هو منفذ في نهاية العام المالي، يعكس أكثر من حقيقة، منها: أن ما يصدر من منشور الموازنة، وموازنة المواطن، والبيان المالي والبيان التحليلي للموازنة، بل مناقشة الموازنة في مجلس النواب مجرد إجراءات شكلية، وأن مصر تفتقد للمسؤولية السياسية تجاه موازنتها العامّة.