ينتظر كثير من اللبنانيين الانتساب إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، كي يتاح لهم الاستشفاء والتداوي من دون أن يتحملوا سوى نسبة محددة من الفاتورة الطبية. لكن، من هم مسجلون فعلاً ليست حياتهم وردية... هؤلاء أيضاً من المنتظرين ولو من داخل المنظومة.
المنتظرون في مراكز الضمان يتحوّلون إلى شكل آخر. يكتسون هيئة غريبة. المراكز نفسها تتخذ أشكالاً غير مألوفة تمتلئ بالسلالم المرتفعة. ويتحوّل الموظفون فيها إلى أجزاء منها؛ بلونها المعتم وقساوتها واهترائها وجمودها. تكاد تتساءل إن كانت لهم بيوت يذهبون إليها أصلاً، ام أنّهم ثابتون في أماكنهم تتمحور كلّ حركتهم في الحيّز المخصص لهم.
وسط اكتظاظ المكان بالمراجعين، كلّ معاملة لها مسار انتظارها الخاص. فمن ينتظر موافقة مسبقة على عملية جراحية، تجده متوتراً مستعجلاً مرتبكاً لا يكاد يعرف أي شيء. تجده غير قادر على التركيز فهو مشغول بمريضه، وبالمستشفى، وبإنجاز المعاملة قبل إقفال الدوام، وقبل ذهاب طبيب الدوام المناوب، وقبل اختفاء الطبيب المراقب في المستشفى. كلّ هذه خطوات إجبارية عليه أن يمرّ بها في حال جرت الموافقة على المعاملة أساساً ولم تكن ناقصة، وهنا المصيبة الكبرى، حين تجده يلتمس العطف من أيّ كان.
نمط آخر هم المنتظرون قبض شيكاتهم. هؤلاء مهمومون بما هو أبعد من الانتظار المرّ والانتقال من مكتب إلى آخر. هم مهمومون بالمبلغ الذي سيحصلون عليه، وقد حسبوا الكثير من الحسابات. وغالباً ما يكون توقعهم أكبر بكثير من حسبة الضمان. تمثل فترة الانتظار هنا توتراً صامتاً خصوصاً مع العدد الكبير من الأشخاص الذين يتحول تأففهم الجماعي إلى حس مشترك ينطق باسمهم. فإذا كان أحدهم يحتج على قيمة محدودة لشيك مصرفي غير متوقعة شعر الجميع أنّ الأمر يمسّهم. لكنّ كلّ ذلك ينتهي لدى من ينال شيكاً ذا قيمة مرتفعة قد تفوق توقعه. عندها ينسى كلّ ما كان يجمعه بالبقية.
انتظار آخر هو الخاص بتقديم الأدوية والوصفات الطبية، وتسلّم البطاقة السحرية التي تعده بقبض بعد خمسة أشهر. هنا بالذات يراجع الفرد أوراقه كلّ لحظة. فأيّ ورقة ناقصة تعني عودته إلى آخر الطابور، وربما تأجيل معاملته إلى يوم آخر. كما أنّ وصول أحدهم إلى الشباك الوحيد من دون أن يكون قد رتّب مغلفات الأدوية وفقاً للوصفات الطبية المرفقة وفواتير الصيدلية، يعني أن يتأخر ويؤخّر صفّاً كاملاً خلفه. يتطوع "خبير" -كي يخفف عن نفسه الانتظار- لمساعدته في إنجاز المهمة وسط تأفف الآخرين، وربما سخريتهم.
هي انتظارات لا تنتهي، تنضم إلى قافلة انتظارات أخرى... فالدوائر اللبنانية، كغيرها من الدوائر العربية، من أصول عملها إذلال المواطنين.