"لذلك خلق الله المساء وأخفى الشمس في طيّات المجهول لميقات معلوم، ولو كانت الدنيا نهاراً دائماً وكدّاً لا ينقطع، لانقلب الناس إلى شياطين وما عرفوا الله.. لا بدّ من هدأة كلّ مساء، يدهشون فيها لعجائب النهار المدبِر ويبتسمون لخشونته ويتساءلون ملحفين عن سرّ النماء والذبول".
هو الليل الذي يلتجئ إليه أبطال عبد الحكيم قاسم في روايته "أيام الإنسان السبعة"، هؤلاء الفلاحون الفقراء الذين يتحوّلون دراويش بين فوانيس يخفت توهّجها، وسط تلك العتمة التي اكتنفت ريفهم. ويكتب: "هم الآن طيّبون حكماء ينظرون إلى كدّ اليوم بوداعة ويبتسمون نادمين على عصفهم الغاضب بالنساء والولدان والبهائم، لكنها قسوة الحياة وخشونة النهار (...)".
هو الليل ذاته، بدماثته، الذي يختار بعضَنا، ويمنح هذا البعض نعمة الأرق، لعلّنا نتخلّص من رواسب نهاراتنا ونكفّر عن قبح ارتكبناه.. لعلّنا نصير نحن، في حياة ثانية موازية تتراوح ما بين صحو وخدر.
هو الليل الذي يتآلف مع أرق نظنّه لوهلة أولى رفيقاً ثقيل الظلّ، وقد جهلنا مصاحبته. ولحظة نسمح لأنفسنا بإدراك سحر تلك الحالة، نستأنسها كطقس بديع. طقس، نستسلم فيه لسدر رهيف، فنفقد إدراكنا للزمن في عمق ليالٍ ليست إلا أليفة. ونسمح لذواتنا بأن تتوه في صرير زيزان استوطنت بعض شجرات صنوبر، صرير يُنبئ بغدٍ يشتدّ حرّه.. أو في ظلال ارتسمت بضوء قمر تكوّر في صدر سماء يتخلّلها فيض من النجوم.. أو في عصف رياح وزخّ مطر على نافذة مواربة تأذنُ لنسمة باردة بتنبيه خدرنا.
الأرق ليس ذلك الرفيق ثقيل الظلّ. هو الصاحب الوفيّ والبصير الذي يحرّضنا على مواجهة ما نحاول الهرب منه بأيّ ثمن.. أحلاماً وأحاسيس ومخاوف وهواجس. كلّها تنتابنا هنا، في عمق هذا الليل. كلّها متاحة هنا، في تلك العتمة التي تكتنفنا. هو يدفع بنا إلى خارج كبت احترفناه، لندرك عالماً حقيقياً وخاماً. نستسلم لتلك الحالة ونطوف خِفافاً في أعماق ذواتنا، من دون قلق من الغد المدبِر.
ندخل في الليل، نغوص في ذواتنا البيّنة، فنلمس تلك الذاكرة التي تصوغ وجودنا، ونتصالح معها لنصالح ذواتنا. نعبر مخاضة الظلام، ليتحرّر في هدأة الليل ذلك المستطاع الثابت الذي يحكمنا، من قيوده. وندرك ذواتنا بكلّ أصالتها.
في أرقنا، نحيا أكثر. نحيا من دون أقنعة وابتسامات مفتعلة وتبريرات، نحيا محرَّرين من كلّ ما يعيق ذلك التطواف الخفيف في أعماق ذواتنا.. ذلك التطواف الذي يحرّرنا ولو في حياة ثانية موازية تتراوح ما بين صحو وخدر.
اقرأ أيضاً: أحببتهم بروحي