"تولسي" في الأصل، كلمة هنديّة تعني الحبق المقدّس، وهي تجسيد لآلهة الصحة. لكن في الحقيقة، تولسي نجّار طفلة تبلغ من العمر ستة أشهر فقط، وتساعد والديها في العمل. تستلقي على فراش صغير وملون في الهواء الطلق، فيما تقف أمها فوقها وتمسك رجلها بطرف يدها وترفعها إلى الأعلى. إنها رياضة اليوغا، التي تمارسها تولسي مذ كانت تسبح في رحم مايا سوراتي.
لحسن حظ تولسي أنها، وحتى الآن على الأقل، الوريثة الشرعية الوحيدة لـ "بيت النسيم" الواقع في منطقة الميناء في طرابلس. البيت الذي ولدت فيه والذي يمثل للعائلة ولكل من يزوره أكثر من مجرد كومة باطون وأعمدة. كل شيء في بيت النسيم يأخذ مكانه الطبيعي، منها الشمس على السطوح. تدخل أشعتها من نوافذ غرف لكل واحدة منها طابع هنديّ يحافظ على لونه، فيما الأبواب والشبابيك مطليّة بلون البحر الذي تطلّ عليه. النسيم يملأ المكان فيما تولسي تستلقي على أرض "السطَيْحة" على الرغم من أنها لا تحبو بعد.
تغيب مايا لتحضير القهوة، لتعود وتجد أن تولسي تقيأت بعضاً من الحليب الذي كانت ترضعه من ثدي أمها. لا تركض باحثة عن منديل ولا عن محارم مبلّلة. فقط تبلل يدها بماء الحنفيّة، التي على السطح، وتعود لتمسح الحليب عن فم ابنتها، ثم تغسل يديها بالمياه مجدداً.
يحكي هذا المشهد كثيراً عن حياة مايا وعائلتها. حياة تتصف بالبساطة التي تقوم عليها اليوغا أصلاً. "من غير الممكن أن نفصل بين اليوغا كممارسة وكرياضة، وبين الحياة، إذ إن اليوغا هي الحياة نفسها"، تقول سوراتي التي تفضل أن تتحدث عن اليوغا كفلسفة لا كرياضة، وذلك لأن الرياضة ليست سوى ممرّ يعبر به الإنسان حتى يصل إلى أهداف أسمى لليوغا، منها السيطرة على الشغف، السعادة، والتعرف على الذات". والتأمل، بحسب مايا، ليس حالة تتخطى الطبيعة كما يسوّق لها الإعلام. على العكس، "الأمور أبسط بكثير. التأمل يعني أن أكون معك في هذه اللحظة وأن أتمكن من الإحساس بتنفسّي في الوقت عينه".
يقاطع بكاء تولسي المفاجئ حديث مايا، فتحملها وبحركة غير اعتيادية، ترفع فخذها إلى الأعلى وهي تقف على رجل واحدة. ثم تضع تولسي على فخذها لترضعها. تهدأ تولسي وتعلّق والدتها مازحة أن ابنتها تحب الأضواء. لذا، يحدث أن تبكي عندما تشعر أن الأضواء مسلّطة على غيرها. لدى رؤية سوراتي تقوم بحركة مماثلة بكثير من الاتزان، يفاجأ المرء عندما يعرف أنها تمارس اليوغا منذ سنتين ونصف السنة فقط لا غير، وأنها عندما تعرّفت على نبيل زوجها لم تشأ أن تكون لها أية علاقة باليوغا، وبالتالي أية علاقة وطيدة بجسدها. "لكن نبيل كان مصراً، وكان الطريق صعباً وموجعاً. الوجع كان جسدياً ونفسياً، بخاصة أن الاثنين مرتبطان ببعضهما بعضاً ارتباطاً وثيقاً"، تشرح. كون نبيل ومايا يعيشان اليوغا، من البديهي أن يشكّلا ثنائياً مختلفاً بعض الشيء. نبيل ومايا ليسا كائنيّ شغف، فالعلاقة التي تجمعهما ليست "يا الله شو مغرمة فيه" على حدّ قولها. اليوغا جمعتهما ووحّدتهما، وخصوصاً أنه يبني سلاماً بين الشخص وذاته وبينه وبين الآخر.
تقول سوراتي إن اليوغا تساعد على التركيز، وعلى أن يكون الإنسان متصالحاً مع ذاته. كما أنها "وفي كل مرّة اكتشفت أنها فهمت شيئاً، تفهم أنها لم تفهم شيئاً من شيء"، بحسب تعبيرها.
من الواضح أن لدخول نبيل حياة مايا تأثيراً كبيراً. فالمرأة التي تعرّف إليها نبيل حين كانت في السابعة والعشرين من عمرها، كانت قد قررت أنها لا ترغب في الزواج أو الإنجاب. أما الآن، فتقول: "كيف كان من الممكن ألا أنجب؟ بعدما ارتبطت بنبيل وأصبحت في عمق الحب، صار من البديهي أن أنجب، أن أساهم بفعل الخلق، حتى أن جسدي كان يطلب مني أن أقوم بذلك".
الأمومة حرّرت سوراتي، على الرغم من أنها تكبّل كثيرات. بعدما أصبحت أمّاً، تغيرت نظرتها إلى الأمهات من حولها، والأمومة بطبيعة الحال. "الأمومة بلسمت جراحاً كثيرة لديّ، بخاصة في ما يتعلق بعلاقتي مع أمي"، تشرح. "كثيرة هي النساء اللواتي صرن أمهات من دون أن يعشن التجربة كاملة. لديهن مشكلة مع الحمل والإنجاب والرضاعة، وتمضية الوقت مع الطفل وتربيته"، تقول بحزن من يدرك ما تفوّته هؤلاء الأمهات من تجربة تصفها بالرائعة.
أرادت سوراتي أن تشعر بالألم، من دون أي مخدّر. فكان لها ما أرادت، فولدت تولسي في بيت النسيم. وتسنى لها أن تشعر بابنتها تخرج من جسدها، وبأن شيئاً ما منها يموت حتى تكتمل كامرأة. برأيها، هذا موت ضروري ومؤقت، طقس من طقوس الحياة. وغالباً ما يذكّر نبيل زوجته أو يكتب لها: "تولسي هي أستاذتك".