كان الجوّ بارداً والظلام يلفّ كل شيء في عيادة الطبيب النفسي في وسط دمشق، فقد انقطع التيار الكهربائي ـ وهو حدث متكرّر هذه الأيام في العاصمة السورية ـ فوضع كوفية فوق سترته طلباً للدفء.
واهتدى المرضى بنور هواتفهم المحمولة كي يتمكّنوا من صعود الدرج الضيّق خمسة طوابق. ويقول الطبيب، الذي طلب عدم نشر اسمه، إن المرضى كانوا يأتونه من شتى أنحاء البلاد، لكن في ظل الحرب الأهلية ما عاد الكثيرون يتمكنون من الوصول الى العاصمة عبر جبهات القتال.
وعندما بدأت الثورة المطالبة بالديموقراطية قبل ثلاثة أعوام، كان السوريون يستعينون بالرعاية الصحية التي تدعمها الحكومة، لكن الصراع المسلح الذي أعقب قمع الاحتجاجات دمّر الكثير من المستشفيات ولم يعد لمؤسسات الطب النفسي من وجود تقريباً.
وانهارت كذلك شبكات العلاقات الأسرية تحت ضغط الحرب. فسوريا، مثل غيرها من الدول العربية، لها تقاليد راسخة في مجال المشاركة المجتمعية في رعاية الفرد. لكن منذ بدأت الحرب اقتُلعت المجتمعات المحلية من جذورها ودُمّرت قرى وبلداتٍ بأكملها، وهو ما ترك أضعف فئات المجتمع دون شبكة أمان تحميها من السقوط.
ولم يكن الطلب على الرعاية النفسية، قط، أكبر ممّا هو عليه الآن في سوريا. ويجد الأطباء النفسيون صعوبة بالغة في مواكبة العدد الكبير من حالات الصدمة النفسية المرتبطة بالحرب.
ومن المألوف، هذه الأيام في دمشق، أن يرى المرء إعلانات تحمل صور مرضى اختفوا بعدما شُرّدوا من بيوتهم.
وحتى المرضى الأفر حظاً، الذين يعيشون في بيوتهم في منطقة وسط دمشق الآمنة نسبياً ويستطيعون الاستعانة بالأطباء النفسيين القلائل الباقين، يجدون أزماتهم تتفاقم تحت ضغط الحرب.
فمثلاً في حالة سوسن، وهي امرأة في الأربعين من عمرها تعاني من الفصام، تصيبها أصوات الحرب بنوبات الاهتياج وجنون الارتياب.
وقالت أمها: "في الليالي الصعبة التي نسمع فيها الكثير من القصف ودويّ إطلاق النار، تنزعج بشدة. و(أحياناً) تحبس نفسها في غرفتها أياماً لا تخرج منها إلا لماماً كي تأكل شيئاً. الوضع صعب علينا للغاية".
ورتبت الأسرة لوصول دواء سوسن، الموصوف في التذكرة الطبية، من لبنان، حيث يستحيل تقريباً الحصول عليه الآن من سوريا.
وأصيبت ربا ـ وهي امرأة في أواسط الخمسينات تعاني من اكتئاب هوسي ووصف لها العلاج بالليثيوم منذ اربعة عقود ـ بنوبة هوس تعتقد أسرتها أنه كان يمكن تفاديها بالإقامة في المستشفى فترة قصيرة، لكن هذا لم يعد متاحاً، لأن مستشفى الأمراض النفسية الرئيسي يقع على مشارف دمشق وسط منطقة القتال ولم يعد الوصول إليه ممكناً.
ومن ثم بدأت ربا تختفي بالساعات في المرة الواحدة، إذ تخرج لتتسوّق في شتى أنحاء دمشق حتى خلال أعنف هجمات المورتر على المدينة.
وقال شقيقها: "كان علينا أن نتعامل مع هذا قبل الحرب وكان آنذاك أمراً لا ضير فيه، إذ نخرج ونعثر عليها ونعيدها الى البيت. لكن الآن؟ في خضمّ هجوم بالمورتر تخرج للتسوّق؟ إذا لم تجب على هاتفها، لا نعرف إن كانت حية أم ميتة أم خطفت؟ إنه لأمر مفزع للغاية".
الصدمة النفسية
قالت جماعة المساعدات الدولية "أطباء بلا حدود"، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إن 15 في المئة من اللاجئين السوريين في مخيم للاجئين في العراق تظهر عليهم أعراض الاضطراب العقلي الشديد، وهو ما يمثّل ضعفي هذه النسبة قبل عام.
وقالت آنّا ماريا تيغيرينو، وهي مستشارة للصحة النفسية لدى أطباء بلا حدود: "يرى فريقنا باطّراد مزيداً من ردود الفعل والأعراض المعقّدة بين اللاجئين. وأصبحت الاضطرابات، مثل الفصام والاكتئاب الحاد، أكثر انتشاراً، ونرى الكثير من المرضى ذوي الميول الانتحارية".
ويقول الطبيب النفسي، في عيادته في دمشق، إن أعداد الحالات التي يقابلها وطبيعتها اضطرته لإعادة النظر في طريقة العلاج برمّتها.
وقال: "نقابل الكثير من حالات اضطراب ما بعد الصدمة النفسية.. الأطفال الذين يرون الدماء والجروح البليغة، لا يستطيعون التخلّص من صورتها في أذهانهم. ويرونها كلما طرفت أعينهم".
ويتعيّن على المدنيين المقيمين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة في سوريا، أن يتحملوا الغارات الجوية. ويمنع الجيش وصول الاطباء والادوية. ويتعرّض الاطباء، الذين يحاولون اجتياز حواجز التفتيش الحكومية، للاحتجاز.
وروى طبيب نفسي، يعمل في رعاية النازحين، قصة فتى عمره 12 عاماً قابله راكباً في المقعد الخلفي لسيارة حاملاً أخته الرضيعة والأسرة تفرّ من النيران.
وقال الطبيب: "كانت الطفلة مصابة برصاصة وتوفيت بين ذراعيه. ويقول أبواه إنه رفض أن يتركها لفترة طويلة بعد ذلك، وكان غارقاً في دمها"، مضيفا أن الغلام يعاني من التبوّل اللاإرادي خلال النوم.
ويقيم الأطباء النفسيون المحليون، بمساعدة جماعات المساعدة الدولية، فصولاً فنية علاجية للاطفال في شتى المناطق التي تخضع لسيطرة الحكومة ويدرّبون المدرّسين على التعرّف على أعراض الصدمة النفسية.
وتصف جولييت توما، المسؤولة في منظمة الامم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، هذه البرامج بأنها أنشطة علاجية وترفيهية، مثل المسرح والكتابة الابداعية والموسيقى والرياضة. وتقول إن ما يقدّر بنحو أربعة ملايين طفل في سوريا بحاجة الى مثل هذه البرامج، لكن كثيرين منهم يصعب الوصول إليهم بسبب القتال العنيف أو الحصار العسكري.
وتقول توما إن الفائدة التي تعود على عشرات الآلاف من الذين يمكن الوصول إليهم واضحة.
وأضافت: "في البداية، يستخدمون ألواناً صارخة مثل الأحمر والأسود ويرسمون دبابات وجنوداً وجثثاً. لكن بعد شهور، نلاحظ أنهم يرسمون أشياء عادية، مثل بيوت صغيرة وطفل صغير ذاهب الى المدرسة وغابة وزهور".