تنوّعت اتجاهات توظيف الخط العربي في الفن المعاصر منذ منتصف القرن الماضي، إذ سعى بعض الفنانين إلى البحث في هندسة الحرف ودلالاته الفلسفية المتعلّقة بموروث التصوّف أساساً، وذهب فريق ثانٍ إلى بعد زخرفي جمالي كتطوير للتوريق والتشجير الذي يستمد أصوله من التراث، واعتمد آخرون الحرف كرمز أو علامة في اللوحة.
يعتمد الفنان العراقي صباح الأربيلي (1977) الحرف في بداياته ضمن قواعده التقليدية التي لا يحيد عنها غالباً، ليبدأ منذ مطلع الألفية الثالثة تجريبه القائم على التعامل مع الخط كوسيط فني وشكل استعاري يقدّمه من خلال رسوماته وأعماله التركيبية ومنحوتاته، ويهتمّ بطاقته التعبيرية بمنأى عن معادله الفلسفي. "ركن السعادة" عنوانٌ اختاره لمعرضه الجديد الذي يتواصل في "المؤسسة العامة للحي الثقافي - كتارا" بالدوحة حتى الخامس عشر من الشهر المقبل، وهو عنوان يحيل إلى معانٍ تتصل بالحياة بمفهومها المادي الذي لا يلغي الروحي بالضرورة، قياساً إلى عناوين عدد من معارضه السابقة مثل "يلا نعيش" و"منطق".
السعادة تبدو المفردة المناسبة لوصف تاريخ الحروفيات منذ أن سعى الخطّاطون العرب قبل قرابة ألف عام لتحويل النصوص إلى أشكال تتزيّن وتتراقص، فيتحوّل الفضاء المجرّد من حولها إلى زخرفة، وصولاً إلى اليوم، حيث الحرف وتكراره عنصر أساسي في تكوين العمل الفني. لا يفصل الأربيلي الخط عن الفن على نحو تعسفي، لكنه ينظر إليه وفق ممارستين متوازيتين؛ الأولى كلاسيكية تنظر إليه بوصفه كتابة ثانية أو إعادة كتابة وتقليد من خلال أنظمة هندسية كما في نسخه للمصحف الشريف في قطر، والثانية تنزع نحو إبداع مفتوح متحرّر من المرجعيات السابقة.
وفق هذه الرؤية، يستعير في معرضه الحالي الدائرة في بعض أعماله، والتي يرى أنها "تعبّر عن الحياة، وأن الشكل المستدير يرمز إلى الكرة الأرضية والحياة"، فعمِد إلى أن يتجاور أربعون عملاً في مسارات ثلاثة، لتحضر الحروفيات التي تحاكي نصوصاً بأسلوب تقليدي وأخرى بمنظور حداثي إلى جانب المجسّمات ثلاثية الأبعاد.
يمثّل المعرض خلاصة عقدين قدّم خلالهما الفنان تجارب متعدّدة، فأعاد تمثيل أسماء الله الحسنى عبر التجريد في خطوط تفصل فضاءات مشبعة بتدرجات اللون لتشير إلى المطلق، أو تتداخل الحروف بأسلوب متشابك يركّز تباين الظل والنور ضمن كتلة واحدة، فلا يعود الحرف وحدة مستقلة بحد ذاته.
في هذا الاتجاه تحضر تجربة الفنان الجزائري محجوب بن بلة، والذي سعى إلى إخفاء الحرف بطريقة لم يعد يشكّل علامة مقروءة أو يحمل معنى محدّداً يرتبط بنصوص أو كتابات سابقة. ورغم أن الأربيلي أبقى ملامح أو أجزاء من الحرف لكنه نزَع عنه أي طاقة لتأويله منفرداً، وأصبح معرّفاً باللون والشكل فقط، متخلّصاً من أية قيود تؤطره أو تفرض عليه قراءة مسبقة.
وهو بذلك يقدّم أسلوبه الخاص المستند إلى مفاهيمية الفن بشكل رئيس، مستفيداً في الوقت نفسه من الخط كموروث جمالي، ومن تخصّصه في فن السيراميك (الخزف والتذهيب) في دراساته العليا، محاولاً الوصول في تجريبه الدائم إلى أن يعكس أفكاره ورؤاه في الحياة وفي الفن أيضاً.