يُمكن اعتبار الشاعر الجزائري، بشير حاج علي (1920 - 1991)، إحدى الشخصيات الثقافية التي تماهت أقوالها وكتاباتها مع أفعالها؛ إذ لا يُمكن فصل تجربته الإبداعية عن مساره النضالي، هو الذي رافق لحظاتٍ مفصلية من تاريخ الجزائر المعاصر، قبل وخلال وبعد الثورة التحريرية (1954 - 1962)، شاعراً ومناضلاً وسجيناً، ثمّ شاهداً فضَح بكتاباته التعذيب الذي مارسه جزائريّون ضدّ جزائريّين غداة الاستقلال.
خلال الفترة الاستعمارية، مارَس حاج علي النضال السرّي في صفوف "الحزب الشيوعي الجزائري"، ما عرّضه للاعتقال من قبل السلطات الفرنسية. وبعد سنتَين من اندلاع الثورة، فاوَضَ رفقة رفيقه الصادق هجرس، كممثّلَين للتنظيم العسكري للشيوعيّين، "جبهةَ التحرير الوطني"، وشاركا في الثورة. وفي تلك الفترة، كتبَ قصيدته الشهيرة "أقسم"، التي تناول فيها مظاهرات الحادي عشر من ديسمبر/ كانون الأوّل 1960، التي خرج فيها الجزائريّون للمطالبة بحقّ تقرير مصيرهم.
على أنّ كتابات حاج علي، قبل الاستقلال، لم تقتصر على الجانب النضالي؛ فرغم الظروف التي كانت البلاد تعيشها حينها، أبدى ولعاً واهتماماً كبيرَين بالموسيقى الشعبية والأندلسية، بل إنه خصّص كتباً ودراسات كانت سبّاقةً في هذا المجال؛ حيث قدّمت إضاءات على حياة وتجربة "عميد الأغنية الشعبية"، محمد العنقة (1907 - 1978).
بعد استقلال الجزائر عام 1962، ظلّ محتفظاً بمسافةٍ مع السلطة، ثمّ اتّخذ مع رفاقه اليساريّين موقفاً معارضاً للانقلاب العسكري الذي قاده هوّاري بومدين في يونيو/ حزيران 1965 ضدّ الرئيس أحمد بن بلّة. وفي هذا الإطار، أسّس رفقة المؤرّخ محمد حربي والحقوقي حسين زهوان "منظّمة المقاومة الشعبية" المعارِضة للانقلاب، وهو موقفٌ كلّفه سنواتٍ من السجن بين 1965 و1968، والإقامة الجبرية بين 1968 و1974.
نقلَ بعض تفاصيل السجن والتعذيب الذي تعرّض له في كتابه "التعسُّف" الذي كتبه في زنزانته على ورقٍ صحي داخل زنزانته أُخرج خفيةً بمساعدة زوجته الفرنسية لوسات (1920 - 2014)، وقد جرى تداوُل العمل سرّاً، قبل أن يصدر عن "منشورات مينوي" في فرنسا عام 1966، ليكون أوّل كتابٍ يفضح ممارسات التعذيب في جزائر الاستقلال.
ذيّلَ صاحبُ "شعبنا سينتصر" (1960) كتابه بقصائد شعرية حملت عنوان "نشيدٌ لليالي سبتمبر"، تحدّث فيها، أيضاً، عن تجربة السجن، عن التعذيب والخوف، وكيف ساعده حبّه لزوجته على الصمود. في قصيدة بعنوان "زنزانتي تتحدّث"، يُصوّر زنزانته كائناً حيّاً يتحدّث ويُصلّي ويتألّم:
"زنزانتي تتحدّث
تقوم زنزانتي بمحاسبتها السنوية
تقتل البراغيث عند ولادتها
تُبقي الجراح مفتوحة
تُهدهد الانتحار المقترَح عن بعد
وتصلّي على جُثثٍ لم تُدفَن
تنحني تحت وطأة الأمل الكبير
فعروق الثورة تحفر جدرانها الضيّقة".
في قصيدةٍ أخرى بعنوان "القسم الثاني" ذُيّلت بتاريخ كتابتها في أكتوبر/ تشرين الأوّل 1965، يروي كيف اضطرّته الظروف إلى الإدلاء بقسَم مرّةً أُخرى:
"أُقسم بليالي سبتمبر المشوّهة
أقسم بدموع وآهات المعذّبين
أقسم بالأجساد المُمزّقة والقلوب الباكية
أقسم بيأس الأبطال المُفتّت
أقسم بالفخر الذي نجا من المذابح
أقسم بالسكوت المُنجي، وبالخوف من الموت
أقسم بندم من تكلّموا
أقسم بأرواح ماتت بعد الخيانة
أقسم ببذاءة الجلاّدين
أقسم بالاشمئزاز من البرجوازية الصغرى
أقسم بقلق الزوجات المضاعَف
أننا سنحظر التعذيب
ولن يُعذِّب الجلاّدون".
أفردَ حاج علي في كتابه صفحاتٍ تكشف ما تعرّض إليه هو ورفاقُه من تعذيبٍ بالكهرباء وجلدٍ للأعضاء التناسلية وضربٍ حتى الإغماء، إضافةً إلى التعذيب النفسي والعزل التامّ عن بقية المساجين، والذي كان يستمرّ طيلة أشهر في بعض الأحيان.
يَذكر، أيضاً، أن الجلّادين مثّلوا أكثر من مرّةٍ عملية تصفيته؛ إذ كان يُوضَع قبالة جدار في ساحة السجن، ويُطلَب منه أن يعترف ويكشف عن أسماء رفاقه الفارّين، قبل أن يعدّوا من واحد إلى عشرة، ثم لا يُطلِقون النار. كانوا يتركونه، أحياناً، أمام الباب من دون سلاسل، ويتحدّثون بصوتٍ خافتٍ لكنه مسموعٌ من طرف السجين، فيسمعهم يقولون: "عملية التصفية ستجري كما هو مخطّط لها هذا المساء، لأن السجين سيحاول الهرب". يكتب الشاعر هنا: "نصفَ مُستيقظ، خائفاً، أحبس الدموع بقوّة. وأصرخ: أنا بشير حاج علي، سيقومون بتصفيتي هذه الليلة بحجّة محاولة الهرب، أخبروا الناس بهذا بعد خروجكم.. أخبروهم".
بين جلسة تعذيبٍ وأُخرى، كان حاج علي يكتب لزوجته لوسات، أو صفية كما كان يُحبّ أن يناديها. تبادلاَ العديد من الرسائل التي نُشرت أوّل مرّة سنة 2002، وكانت هي الأخرى متنفساً للشاعر من خلاله يروي يومياته في السجن، أو يُقدّم قراءات نقدية لكتب ومقالات؛ حيث ناقش مواضيع أدبية وفكرية وتاريخية عدّة، كما يذكر كتّاباً قرأ لهم؛ مثل عبد الرحمن بن خلدون، والشاعر الفرنسي لويس أراغون، والشاعر التركي ناظم حكمت، وكاتب الأغاني الفرنسي جان فيرا، أو يذكر قصصاً شعبية جزائرية عمّرت لقرون. وضمن الحديث عن هذه النصوص، كان يَعد حبيبته بشرحٍ أوفى لكتاب "طوق الحمامة" بمجرّد مغادرته السجن، ويَرسم لها مدينة خيالية من زنزانته، أو يَعِدها بزيارة الأندلس معها... الأندلس التي طالما حضرت في كتاباته.
في تلك الرسائل، كثيراً ما نشعر بأن الشاعر وحبيبته يتناقشان مثل زوجَين جالسين في مقهى أمام "البريد المركزي" في قلب الجزائر العاصمة؛ إذ نقف على تفاصيل من الحياة اليومية، كأنْ يتحدّث عن استغرابه من طلبات رفاقه في السجن بشرح نصوصه. يكتب عن ذلك قائلاً: "الشعر لا يُشرَح، الشعر يبوح، لكن ليس بكل شيء، يُبقي لغزاً بين أبياته، يعرفه فقط كاتب الأبيات ومحبوبه".
هكذا كان احتمال التصفية والخوف من الموت تحت التعذيب محرّكاً فنياً لدى حاج علي. كان يذكر الأمل دائماً، إلى جانب الفخر بتجربته، وتجربة زوجته التي بدا أنه كان واثقاً من ملاقاتها مرّةً أخرى، وبين هذا وذلك، يظهر حسّ الفكاهة لديه في صور بسيطة، كأن يقول: "زياراتك تشبه حمّاماً ساخناً، فهي تُشعرني بالبهجة والحنين إلى الماضي، مثل الأندلسيّين الذين طُردوا من إسبانيا، مع هذا الاختلاف: أنا سأعود إلى أندلسي".
وكأنما عاد بشير حاج علي إلى أندلسه فعلاً، حين أُفرِج عنه نهاية الستّينيات، وإن كان قد عاش بعدها تجربة الإقامة الجبرية، قبل أن يَرحل من دون أن يُعترف به كمناضلٍ في الثورة ولا كاسمٍ نوعيٍ في الثقافة الجزائرية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموسيقى أيضاً
أصدر بشير حاج علي عدّة أعمال شعرية؛ أبرزها: "نشيد للحادي عشر ديسمبر" (1961)، و"نشيد لليالي سبتمبر" (1966)، و"فلتبقى السعادة" (1980)، إضافةً إلى كتبٍ سياسية؛ من بينها: "شعبنا سينتصر" (1960)، و"دروس من الحرب التحريرية في الجزائر" (1965)، كما انشغل بالموسيقى باحثاً ومؤرّخاً، ومن أعماله في هذا المجال: "مصادر وخصائص وآفاق الموسيقى الجزائرية" (1960)، "ما هي الموسيقى الوطنية؟" (1964).