من هذا التدفق الخصب والفاتن للموروث الفلكي استقت الفنانة التشكيلية التونسية سارة بن عطية (1977) مفردات معرضها الأخير في فضاء "دار الفنون" في العاصمة تونس. تحمل الأعمال عنوان "السمت/ الزنيث"، أو النظير، في إشارة واضحة إلى مفهوم علمي دقيق في جغرافية القبة السماوية. "السمت" هو النقطة التي تقع فوق رأس الراصد، يقابلها "النظير" القائم في آخر القطر الممتد في اتجاه قدميه. وبينما السمت وجهة ماثلة أمام الإنسان، يبقى النظير متخفياً وروحانياً، يحيل إلى رؤى التصوّف.
استثمرت بن عطية هذه المعطيات من خلال التركيز على الشكل الدائري وحركة المادة التشكيلية لتماثيل الطين المشوي. وفي هذا السياق، قدّمت لزوار معرضها 33 عملاً خزفياً تتوزع إلى صنفين: نُصُب، ومشغولات حائطية. وتتنوع التقنيات في هذه المجسمات الطينية، على غرار صنفَي الـ "راكو" والـ "بيت فايرنغ" الطاغيين.
تجدر الإشارة إلى أن تحضير الخامات أمر بالغ الأهمية في فن السيراميك. فمادة الطين، قبل إدخالها إلى الفرن، تخضع إلى تحويرات كيميائية معقدة. وإذا كان الخزف فناً من فنون اللهب، فإن النار تقوم بدور نقل المادة من الطبيعة الترابية اللينة إلى الحالة الصلبة البلورية الزجاجية. ورغم أن الفنان يخفي عادة طرق اشتغاله وتقنياته التجديدية، إلا أنه يمكننا استقراء أقنية تطويع الطين. فإضافةً إلى الصهر، تبدو علامات الصب والكبس والبثق واضحة كلما أمعنا النظر في الأثر.
تحرص بن عطية في معظم أعمالها على مقاربة الألوان والتكثيف من التدرّجات الترابية، فتبدو لدائنها الخزفية أقرب إلى المواد الخام في الطبيعة، كي تكون منسجمة مع محيطها. في المقابل، تترك المجال لمواد الأكسدة والألومنيوم أن تفعل فعلها في التركيبة الكيميائية للطين.
في خزفية "الوردة السمتية"، مثلاً، تتجاور مدلولات الحركة والثبات. فمن ناحية تظهر وريقات الوردة وبتلاتها متقنة التصفيف، ومن ناحية أخرى تبدو الإحالات المعدنية جلية، كما لو أننا إزاء زهرة أبدية لا تتفتت ولا تبلى. وفي خزفية "توازن"، تتمازج تقنية الطين المشوي وتقنية تبخير الكيميائيات.
أما في عمل "الموت هو الحقيقة الواحدة"، فتعمد الفنانة إلى تكديس بقايا الحث الخزفي وقشط المعجونة في صناديق بلاستيكية. وفضلاً عن الأوعية واللقى الفخارية التي تحاول الفنانة شد المتلقين إليها، تمثّل نُصُبها تكديساً جنائزياً لبقايا آدمية جيرية تختلط مع تماثيل تجريدية مصغرة.
الإنسان سلالة من طين، والخزف سردٌ لتغريبته، لأفراحه وآلامه وتهويماته. ولكي تدلل بن عطية على ذلك، نجدها تطلق أسماء على أعمالها من قبيل "الألم أو Spleen" و"الكائن" و"الدازين"، في إشارة واضحة إلى الحقول المعرفية التي تستمد منها أفكارها. وبينما يحيل العنوان الأول إلى كتاب الشاعر الفرنسي شارل بودلير، يستحضر العنوان الثاني حتماً فلسفة مارتن هايدغر الوجودية.
توضح بن عطية لـ "العربي الجديد" أن خزفياتها تعدّ تنفيذاً لرؤية وجودية خاصة لا تقصي الفنان من واقعه، بل تلحّ على ضرورة تحديد الاتجاه وتحسس السير في المسارب الشائكة. وتضيف أن أعمالها اختزال لمسيرة الإنسان المعاصر في حمّى الحروب العمياء والالتباسات والدوّامات المهلكة.