"لقد قتلتَ رجلاً، غادر المكان بسرعة"، يضعنا هذا النداء مع بداية الرواية في لحظة انهيار سردي تفتح باب الأسئلة، وتمدّ خطوط الحكاية. من المتكلم هنا؟ إنه هو صوت الراوي المرافق الذي يُجري محاكاة بين يوسف "القاتل المؤجل" وبين محيطه البشري، المادي، المعنوي والمؤنّب الصارخ داخله بحثاً عن خلاص للفعلة الدامية.
هكذا يبدأ بطل الرواية في البحث عن مفرٍّ من قرية بلا جغرافيا، إلى مدينة تخطّطها الفروقات الطبقية الاجتماعية وهول الإسمنت ودوائر الدولة وحرّاسها القساة، ليرسم الكاتب رحلة بطله من دون كشف واقعي مباشر للأماكن والأزمنة.
لكن وقبل أن يغادر يوسف قريته خشية أن يعلم الناس بجريمته يبدأ في الإعداد للهرب، ويتحوّل أثناء ذلك إلى وحش يفكر في طريقة لإيهام الناس أنه مات؛ ينتظر حلول الليل ليخرج جثة أحد الموتى الوافدين للمقبرة، واضعاً إياها خلف مكتبه الكئيب، مكتب دفن الموتى وتاركاً بطاقته الشخصية ومفاتيحه وكل أغراضه بحوزة الجثة، ويهرب بعيداً إلى مدينة مجاورة، من دون أن ينتبه إلى فقدانه الكارثي لدليل إثبات وجوده رسمياً؛ فبدون "الهوية الشخصية" يصبح موضع شك في المدينة الغريبة.
يفشل يوسف في التخلص من طبول الضمير داخله، يفاقم الأمر تفكيره في زوجة الميت الذي انتحل شخصيته ولفق وفاته باستخدام جثته، "المرأة نصف العارية" التي اكتشفها حين دخل خلسة إلى قصر زوجها، التي تمثّل فكرة عرجاء عن الأنوثة الناقصة، دلالة رمزية قارب من خلالها الراوي خط الأمل النافق الذي لا يجاري صداع العالم حين يئن في أعماق "إنسان لم يتحجّر بعد" هو يوسف، الهائم على وجهه بريئاً متسامحاً هشّاً، إنه ليس شخصية درامية تمتلك الكريزما والخطط البوليسية، بل هو خليط بشري لإنسانية حقة.
يدير الراوي حوارات بينه وبين يوسف حول أفكار متخيلة تشكل شيئاً من الحلول بشأن المأزق الذي هو فيه، فيسخر منه ومن بحثه عن وثائق جديدة تثبت أنه ضيّع هويته، وتكتمل السخرية بأن نكتشف أن القتيل لم يُقتل، فقاطع الطريق ما زال حياً، بينما يبحث يوسف عن الخلاص.
نهايات مفتوحة تصبغها لغة شعرية لا تخلو من الحكمة والتهكم من مجتمع يحقّر الصدق، مجتمع قتل يوسف القابع فينا لنتحوّل بعده إلى كائنات ترثي إنسانيتها المفقودة، لا نعرف كيف نفعل الحب في لحظة التقائنا مع أصل العالم ومنبع البشرية، ذلك المثلث الخصب في امرأة نصف عارية، بقي نصفها الآخر مقتولاً مع جهلنا لإنسانيتنا المصلوبة في كيان يوسف المسكين.