في فتوّتنا كانت الرحلة إلى القرية المجاورة التي أنشئ فيها مركز للبريد، تتضمّن الوعد بوصول الرسائل التي ننتظرها. كنّا في تلك السنوات، لا نزال نحتفي بالصداقات التي تنشأ بين من كانوا يسمونهم "هواة المراسلة": شبّان وشابات من كافة أرجاء العالم العربي مهتمون بالتواصل عبر تلك الورقات البيضاء التي كانت تعمل على خلق ميراث من التقارب العميق بين أشخاص لا يعرف أحدهم الآخر.
ولدى العديد ممن أعرفهم رسائل مكتوبة على الورق، يحتفظون بها كرمز لما يطلقون عليه "الزمن الجميل".
ويرتبط بخدمة التواصل الحميمي بين البشر، وسيط هو "ساعي البريد". وكانت الدول تمنحه لباساً خاصاً مميزاً. وقد عرفت سورية هذا الموظف الدؤوب. وهناك احتمال أن يكون صديقاً للمئات من الشبّان والشابات الذين كانوا ينتظرونه عند مفارق الطرق، أو قرب أسوار المنازل.
وكما يخشى الآباء البطريركيون الرسائل التي تأتي إلى بناتهم، تخاف الأنظمة المستبدة من الرسائل المتبادلة بين مواطنيها. وفيما يعتبر الناس الرسائل تواصلاً، ترى السلطة أنها تتضمن مؤامرة، فتنشئ دواوين الرقابة لتتبع التراسل، وملاحقة الحميمية بين البشر. وهذا شأن الدول التي يخيفها الخطاب الثنائي السري الذي يحمل في طياته، بحسب ساستها، غموض الخطر.
يختفي السعاة بين أيدي الطغاة. لأن الطاغية لا يثق بالرسائل. لهذا ترى أن معظم الدول التي يحكمها نظام مستبد قد ألغت وجود السعاة، فقد يكون سعاة البريد رمزاً لديمقراطية التواصل.
وبالمقارنة بين الإيميل والرسالة، تنتصر الرسالة إنسانياً حتماً. فالبريد الإلكتروني يقدّم كثيراً من "البزنس" المجرّد. ولا تضم الرسالة أكثر من الكلمات الضرورية التي قد تحمل بعض العبارات الودودة، والتحيات البروتوكولية. إنه نوع من التقتير الكلامي، والبخل العاطفي. كما أن الرسائل الخاصة على وسائل التواصل الأخرى تتسم بضيق النفس، أو بالحكي الشفوي، أكثر مما تقترب من التراسل.
الراجح أن يكون اختفاء البريد تعبيراً عن حكومات تنتفع من العزلة، وتعمل على كبح السعي الإنساني الذي لا ينقطع للتواصل. فالبريد مشيمة وجودية تحافظ على بذرة المعنى الحقيقي للطبيعة البشرية الميّالة للعيش المشترك. لا تتقاتل الشعوب البتّة، بل تتراسل. ومن يدفعها للقتال والقطيعة هم أولئك الذين لا مصلحة لهم في استمرار التواصل. والمؤسف أن تتمكن الإجراءات القمعية من تشكيل الوعي والسلوك العربيين اليوم. إذ يبدو البريد في زمن كهولته، إن لم يكن قد تلاشى من بين أيدينا. بل إن روح القطيعة، قد تكون تسلّلت إلى عالم الكتابة. فمن النادر أن يعثر المرء على كتاب رسائل ثنائية، في الأدب العربي، من طراز كتاب الرسائل بين كويتزي وأوستر الذي صدر بالعربية بعنوان "الآن هنا".
في رواية "ساعي بريد نيرودا " لسكارميتا، لا يكتفي الساعي بأن ينفذ عملاً وظيفياً يكمل علاقة الشاعر بالعالم، بل ينشئ حواراً معه، يقرّبه من التفاهم مع حبيبته. ويمضي فيلم "ساعي البريد" الذي قام ببطولته كيفن كوستنر في التأكيد على القيمة التواصلية للبريد، وتنجح الجماعة المسالمة التي تمثّل البريد، في التأكيد على القيمة الوجودية الأهم: كسر الحدود بين البشر.