هكذا توجز الراوية، التي تكتب النص، الأمر قائلة: "ولكن ماذا يحصل حين تجد نفسك محدقاً في طفل ميت، في فتاة ممددة في الشارع من غير ملابس، محطمة الجمجمة، ومكسوّة بالدماء..."، ثم تجيب هي نفسها عن سؤالها بالقول: "أظن أنه سيكون أمراً حسناً، لو جعلت نفسك بمنتهى القسوة، إلى درجة أن لا يؤثر فيك أي شيء بعدها. فإن كنت ترغب في البقاء هنا، فيفترض فيك أن تكون قادراً على تناسي مسألة المبادئ".
يشعر المرء بالأسى وهو يقرأ هذا النص المحتشد بالصور القيامية المدمرة. ويزداد الأسى قوة وفاعلية، حين تتطابق صور الأطفال الميتين، والفتيات المقتولات في شوارع النص المتخيل، مع ما تشهده شوارع المدن والبلدات والقرى السورية، من الصور المماثلة، وسط عالم، لم يعد المجتمع الأميركي سوى الصورة المجازية له، وقد جعل من القسوة، وتجاهل المبادئ، أساساً أخلاقياً له.
ففيما يبدو عدد من الفلاسفة مشغولين بالبحث عن أعذار للإسرائيليين، الذين يقتلون الفلسطينيين، (سلافوي جيجك مثلاً)، تُطوّق الفلسفة في العالم بنطاق من الصمت، أو يخرس الفلاسفة، كأن ما يجري من المذابح، ليس سوى صورة تلفزيونية مشغولة في استوديوهات الفضاء. وقد صمت فلاسفة العدالة والأخلاق دون أن تتحرك ضمائرهم التي كانت تملأ الشوارع تعبيراً عن الغضب من قتل عصفور، أو إهانة كلب، ومن دون أن يسجل اعتراض ذي شأن، إنساني أو أخلاقي، حتى لو لم يكن له أي تأثير، من قبل أي كاتب أو فيلسوف أو عالم، أو طبيب ، في العالم كلّه، على ما يجري من تقتيل وتشريد وتهجير وذبح واعتقال وخطف وإخفاء للبشر في هذه الرقعة المنكوبة.
والأدهى من ذلك، أن الكتّاب الذين كانوا يرفعون الصوت عالياً في وجه تلك القوى، التي تنتهك القيم والمبادئ، صمتوا عن الجرائم هنا. لا أحد يقول: "ليتحرك أحد ما لوقف القتل، من دون أن يشارك في المذبحة". فالناس هنا لم يعد يهمهم تأييد المطالب فقط، بل الانتصار لقيم الحياة. لكن لم يعد أحد يسمع نداء السوري، الذي يريد أن يعيش.
كأن السوريين لا وجود لهم، أو كأن العالم يرغب في إزالتهم من الوجود، كي يتسنى له العيش بعيداً عن كاميراتهم وصورهم، وأصواتهم، ومشاهد أطفالهم الذين تذهلهم الطائرات، وقد أصم أذنيه، وأغمض عينيه عن تحذير الروائي من فجور القوة، ذلك لأنه حين جعل نفسه بمثل هذه القسوة، لم يعد من الممكن أن يتأثر بشيء.