تقف هذه الزاوية مع الكتّاب العرب في قراءاتهم أثناء فترة الوباء، وما يودّون مشاركته مع القرّاء في زمن العزلة الإجبارية.
أعترفُ، في البداية، بأنّ القراءة أنْقذتني من الرتابة والضجر واللامعنى عندما طارتْ بي إلى عوالمها الساحرة، لذلك أعتبرها مؤشّراً عن حريّة الذات وكينونتها وأبقى مَدينة لها بالتخفيف من محن الفكر والحياة. إنّ الكتب تعيدُ تشكيل ذائقتنا ونفسيّتنا ومِخيالنا وتصوّراتنا، فمعها وبها نتحوّل ولا نصير مثلما كنّا، ولعلّ هذا أجمل شيء يحصل لنا! وفي زمن جائحة كورونا والحجر المنزلي يتعمّق هذا الشغف أكثر.
أعيدُ في هذه الأيام العصيبة قراءة كتب المفكّر الفرنسي إدغار موران، وبخاصّة كتابيْه "ثقافة أوروبا وبربريتها"، و"هل نسير إلى الهاوية؟"، حيث يعالج الكتاب الأوّل مسألة تغوّل العلم الحديث وانفلات التقنيّة التي صارت ترْتدّ ضدّ الإنسان وتنتهي به إلى بربريّة مقيتة، يغيب جرّاءها الروحي والعاطفي والضمير لحساب المال والمادّيات. أما الكتاب الثاني فيتناول سيرورة العولمة التي تسير بنا إلى الهاوية، فمع بعض إيجابياتها، كما يذكر الكاتب، فإنّ الإنسان المعاصر لم يسْلم من سلبياتها ومخاطرها، ما يجعل الاقتناع بالمصير الأرضي المشترك وتحوّل الأرض إلى وطن للجميع مسألة ضروريّة أكثر من أيّ وقت مضى.
ويبدو أنّ ثمّة وقعاً خاصّاً لنصوص موران في زمن كورونا، لأنّ الإشكاليات التي طرحها في كُتبهِ إجمالاً لا تنفكّ تُنبّه في كلّ مرّة إلى الأخطار المحدقة بكوكبنا، ولعلّ أكبرها زوال البشر وانقراضهم في ظلّ التسابق المحموم على القوّة والمال والسلاح النووي والبيولوجي والجرثومي، وأنّنا لن نسْلم من الكارثة من دون العودة إلى رُشْدنا والتنازل عن أنانيّتنا واتّحاد البشريّة والتفافها حول مبدأ مُخَلِّصٍ شعاره ''الأرض وطن الجميع''.
وفي تقديري فإنّ نصوصاً فكريّة بهذا الطرح تستحقّ الاستدعاء والمراجعة راهناً. ولفهم توحّش الإمبرياليّة الجديدة في أميركا ونتائج سياساتها المتهوّرة في الداخل والخارج أجدني أستعين بكتب المفكّر واللغوي الأميركي نعوم تشومسكي، مثل "طموحات إمبرياليّة، ماذا يريد العمّ سام؟"، و"الدولة المارقة"، و"الربح فوق الشعب: الليبيرالية الجديدة"، وهي أعمال تُفكّك بوعي وجرأة مختلف البنيات الفكريّة والسياسيّة الأميركيّة المهووسة بالسيطرة على العالم بعد نهاية الحرب العالميّة الثانية، رغم تشدّق أميركا في منابرها بمبادئ حقوق الإنسان والديمقراطيّة وبحقّ تقرير مصير الشعوب. ولا يفوّت تشومسكي في الأثناء الفرصة لكي يُذَكّر الناس بالعواقب الوخيمة للعولمة على الصعيدين السياسي والاقتصادي كتفاقم الفقر والجوع والتخلّف والتبعيّة.
ولعلّ غياب السلام المنشود اليوم وحضوره بصيغته النظريّة وحسب من خلال الدساتير العالميّة - التي تتطلّب تفعيلاً جديّاً وصادقاً - يُعيد إلى الأذهان كتاب كانط "مشروع للسلام الدائم"، الذي صدر قبل قرنين، فقد دعا فيه الفيلسوف الألماني إلى إرساء مبادئ لاتّحاد الشعوب وفق دساتير صارمة تستطيع بواسطتها الإفلات من الحروب وتحقيق السلم، ولكن ماذا عن هذا المشروع وغيره من المشاريع التي تحمل الهاجس ذاته؟ لقد بقيتْ الإنسانيّة معذَّبة في ظلّ الحروب والمآسي، تطارد الأشباح وتتوق إلى الأمن والطمأنينة وإلى تفعيل قوانين السلام العالميّة، وخاصّة الشعوب الواقعة في نصف الكرة الجنوبي، فهل تبدلتْ الأمور، أم أنّ وقت التفاؤل، على ما يبدو، لم يحن بعد؟
أقرأ وأراجع فضلاً عن ذلك الكثير من النصوص الإنسانيّة الأخرى، مثل: "محاورة الدفاع" لأفلاطون، كتاب "تحصيل السعادة" للفارابي، اعترافات القديس أوغسطين، "مقال في العلوم والفنون" لروسو، "في العنف" لحنّة أرندت، "الجنس الثاني" لدي بوفوار، "فصوص الحكم" لابن عربي، "الأجنحة المتكسرة" لجبران خليل جبران، "هكذا تكلّم زرادشت" لنيتشه، "نهاية التاريخ" لفوكوياما، ولكنّ الصخب الداخلي باقٍ وهتاف الروح لا ينقطع أمام أهميّة الكلمة وسحرها وجدواها. فالوصول إلى يقين كافٍ شافٍ هو محال، ووحده اللايقين يجرّنا إلى معاودة التجربة والانخراط في القراءة من جديد.
* أكاديميّة وكاتبة من الجزائر