ألقى عالم الاجتماع العراقي علي الوردي (1913- 1995) في آذار/ مارس 1991 محاضرة في "منتدى أمانة بغداد" حول ظروف بلاده التي خرجت مهزومة من حرب الخليج في ذلك العام، وفُرض عليها حصار دولي، ومن نافل القول إن الحاضرين نُقلوا إلى قاعة أوسع بسبب أعدادهم الكبيرة.
آنذاك، كان التشاؤم قد استبدّ بالوردي، ولم يعد يواجهه بالسخرية كما كان يفعل أثناء تدريسه في "جامعة بغداد" في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، قبل أن يتقاعد باختياره عام 1970 ويتفرّغ للبحث والتأليف.
في محاضراته المذكورة، قدّم صاحب "مهزلة العقل البشري"، مرثيّة لعصره تصلح استعادتها لما تضمنّته من نبوءات تخصّ العراق والعالم العربي. ويبدو أنه أدرك سوء الحال وقرب الأجل أيضاً، فازدادت حدّة انتقاداته حيث وضع أمين بغداد حينها آلة تسجيل أمامه، مذكراً إياه بالرقابة. هاجم المؤرّخ وعالم الاجتماع "شرطة الأخلاق"، التي تأسّست، وقتئذ، وإغلاقها محال الخمر وبيوت اللهو، واعتبرها أفكاراً سلطوية لن تفلح في مواجهة الهزيمة، ورِدّة من قبل نظامٍ يدّعي المدنية.
هزيمة رأى أنها نتيجة لاعتقاده الراسخ كما دوّنه في كتابه "وعّاظ السلاطين" بأن الدولة العراقية الحديثة، التي بُنيت بعد الاستقلال على غرار معظم البلدان العربية، "كانت الطائفية فيها نزاعاً مذهبياً وأصبحت اليوم نزاعاً على الوظائف"، ليصل إلى أن "نزعة التديّن ضعفت في أهل العراق، وبقيت فيهم الطائفية: حيث صاروا لا دينيين وطائفيين في آن واحد".
الطائفية، كما فسّرها الوردي، هي نزاع قبلي على الحكْم، حيث تناول تاريخ السلطة منذ النبي محمد وحتى العصر الحديث، وأن "دولة الوظائف" خلقت تنافساً غير متكافئ بين أبنائها، وأخفت الصراع الطائفي في المجتمع بعض الوقت –وإن حاول كثيرون إنكاره لدوافع سياسية وانحيازات غير موضوعية- فيرى أن هذا الواقع أنشأ أدعياء الحداثة من "الوعّاظ المتفرنجين"، بديلاً عن وعّاظ الدين، وهم يبذلون خدماتهم في تسويق خطاب السلطة وتبريره.
رغم الانتقادات الأكاديمية والشعبية لمشروعه الفكري، يبدو أنّ تهمة تنظيره لظواهر اجتماعية بناء على ملاحظاته لسلوكيات فردية تتعلّق بتعصّب العامة وعودتهم عن المدنية، قد سقطت بتقادم الأحداث في عراق اليوم المبني على المحاصصة والتشدّد.
وكذلك في اتهامه بالإفراط في انتقاد الاستبداد وتحميله المسؤولية الأولى عن إعادة إنتاج الرواسب الاجتماعية والثقافية التقليدية القديمة وترسيخها من جديد، خصوصاً أن قناعته هذه كانت تعاكس التفاؤل السائد في بداية النصف الثاني من القرن العشرين؛ تفاؤل استند أصحابه إلى حركة البناء والتحديث التي غلبت على المجتمعات العربية.