أكتب لكِ اليوم لأعترف حول جريمتين اقترفتهما في ما مضى. اليوم تذكّرتُ واحدةً منهما بعدما اتصل بي صديقي القديم مصطفى. أعتقد أننا لم نتحدّث منذ وقت طويل. تعرّفت إليه (أووه لا أذكر كيف تعرّفت إليه)، لكنه أخبرني اليوم، ذكّرني كيف حدث ذلك.
هو شخص انطوائي، يتثاقل من الخطوة الأولى عادةً، لذا تجدين أن من الصعب عليه خوض حوار أو إلقاء التحيّة على أحد. حسب ما يقول، فإنه عندما صادفني أوّل مرّة في المكتبة (كنتُ حينها أملك شعراً طويلاً مشدوداً إلى الخلف). وبعدما تحدّثنا وذهب هو ليشرب سيجارته في الخارج، قال في نفسه: "لماذا لا أُحدّثه؟ لِمَ لا يحدّثني كل يوم"، ثم عاد لي ليطلب رقم هاتفي.
قلت له بتعجّب: وهل أعطيتك أياه؟ قال نعم وتواصلنا بعدها وصرنا أصدقاء.
بصراحة أنا لا أذكر شيئاً عمّا حدّثني به، لكنه يقول إنّني تصرّفتُ بشكلٍ جيّد. في ما بعد صرتُ أبيعه الكتب باستمرار، مرّةً اقترحتُ عليه كتاب "ما الذي أؤمن به" لـ برتراند راسل. يبدو أنَّ الكتاب سقط صدفةً في يد أبيه، ومن هنا بدأت القصة، تحوّل والده بين ليلة وضحاها إلى شخص مشكّك وبدأ يتخلّى عن مرجعياته الثقافية والدينية، وصار يُظهر اِهتماماً غير معهود بالكتب.
ثمّ صار يصطحب عائلته كلّها للمكتبة لتشتري الكتب، تعرّفتُ إليهم وصرت دليلهم في اختيار الكتب والقرارات. لكن سرعان ما انقطعت العائلة عن المجيء. بعدها عرفتُ أن الاب قد مات.
لمدّة طويلة كنتُ أشعر بتأنيب الضمير، كأني كنت مشاركاً في قتل الرجل.
أنا من حشرتُ هذه الكتب في رأسه، وشتّتُ انتباهه. لم أعرف طريقة موته حتى الآن، ربما كان يفكّر في كلام راسل ولم ينتبه للطريق واصطدم بالحاجز الكونكريتي، أو ربما هو اختار ذلك.
البارحة اِتصل بي مصطفى. تكلّمنا لمدّة ساعتَين، تحدّثنا كثيراً، يبدو أن الأمور ازدادت سوءاً بعد وفاة أبيه، فقد توجّب عليه أن يشغل مكانه في الشركة، وفي أول أيام عمله فوجئ بأن أحداً ما يشاركه غرفته. يقول لي إنه يشعر دائماً أنّ والده يشاركه الغرفة ويحدّثه عن برتراند راسل.
الآن كل ما يريده الولد من أبيه هو أن يتركه وشأنه، بعدما كان يبكي للسماء من أجل استعادته.
عزيزتي تمارة، أكتب لك الآن وانا أشعرُ بارتعاشةٍ تجتاح جسدي، يُخيّل إليَّ أنَّ كلّ ذلك قد حدث بسببي. هذه الارتعاشة تُذكّرني بأوّل يومٍ لي في الجامعة، في درس التشريح تركوا سلحفاة أمامي على الطاولة في المختبر، وأحضروا لي منشاراً. لقد قتلت السلحفاة يا تمارة، ضغطت بأسنان المنشار على جانب الدرع وشققته إلى نصفين.
كانت السلحفاة لا تزال تتنفس، وتنبض أحشاؤها في الداخل، فعلتُ كل ذلك من أجل أن أحصل على تقييم جيّد في الاختبار، ومنذُ ذلك اليوم، وأنا أشعر أنّ درع السلحفاة الكبير معلّق بخيط حول رقبتي، صوت يدور في رأسي ليخبرني بأن كل ذنوب الأرض هي ذنوبي، وكل جريمة هي جريمتي.
* كاتب من العراق