في نهاية الستينيات عثرت على رواية "الشراع والعاصفة" لـحنّا مينة (1924)، معلّقة على حبل مخصص لعرض الجرائد لدى بائع صحف دمشقي في شارع الفردوس، كان قد مضى على نشرها سنتان أو ثلاث سنوات، من دون أن تنفد من المكتبات، إذ لم يكن قد اشتهر بعد، على الرغم من الحفاوة النقدية والشعبية التي لقيتها هذه الرواية.
أذكر أن شخصية "الطروسي"، وهو "بطل" الرواية، قد تركت تأثيراً منعشاً في نفسي كقارئ، والحقيقة هي أن حنّا مينة يخلق في هذه الرواية شخصية فريدة، يمكن أن نقول إنها تشكّل خلاصة نادرة لمتخيّل فكري وإنساني وأخلاقي، يتمكن من أن يصبح مثلاً أعلى.
الطروسي هو الإنسان السوري البسيط، الممتلئ بالحكمة العفوية، والشجاعة الفطرية، والاستعداد الباهر للتضحية من أجل الآخرين إلى حدود الطيش، شخصية مكتملة، أعتقد أن الأدب العربي لا يحفظ إلا القليل من أمثالها، بحيث أمكن لناقدة أن تبتكر تسمية توجز سمات البطل الروائي هي: "الطروسية"، نسبة إلى اسم بطل الرواية.
يقارب حنّا في الرواية موضوعاً آخر هو البحر، لم تكن الرواية السورية قد اقتربت من البحر، كمكان روائي، أو كشخصية حيّة، في أي عمل سبق حنّا مينة، يتباهى الروائي بأنه كان رائد الكتابة عن البحر في الرواية العربية: "يقال إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب".
وهو ما سوف يتجسّد في رواياته اللاحقة، كما في ثلاثية "حكاية بحار"، و"الدقل"، و"المرفأ البعيد"، وكما في "الياطر" وغيرها. والمهم في الأمر ليس البحر كمكان روائي وحسب، فسوريو الداخل لا يعرفون الكثير عنه، بل في أن يتحول المكان إلى صورة رمزية تستطيع أن تلخّص كفاح الإنسان البسيط من أجل الحياة الحرة والكريمة، أو تفسح له الفضاء كي يتحرّر من القيود الأرضية التي عانى حنّا مينة الكثير من المصاعب بسببها، حين اضطر للهرب من البلد خوفاً من بطش السلطة الحاكمة.
يبدو البحر في أعمال حنا مينة بديلاً شهماً مترعاً بإمكانيات لا حدود لها لتجربة قوة الإنسان وضعفه في آن واحد، كما وصف سعيد حورانية حنّا نفسه ذات يوم.
وبالمقابل فإن تجربة الغربة قد منحت الروائي القدرة على كتابة رواية تقترب من السيرة الذاتية، ففي روايته "الثلج يأتي من النافذة" يسجّل حنّا مينة حياة المثقف الثوري الفار من الملاحقة والقمع. يمثل "فياض"، وهو الشخصية الرئيسية في الرواية، ملامح كثيرة تتشابه مع تجربة مينة، غير أن الروائي يحقق في هذه الرواية نقلة فنية جديدة، يمكن أن نقول إنها تشكل مدماكاً آخر في المعمار الفني لأعماله، حيث يلعب بالزمن، وتتسلل الأفكار والمواقف فيها، عبر نسيج معقد ومشدود، يجمع بين متعة السرد، وجمال الحكاية، ووضوح بنية الشخصيات، واشتباك المعاني، ليعود في النهاية إلى خطي التوازي بين السيرة الذاتية ومصير البطل الذي يختار العودة إلى وطنه، بعيداً عن برد الثلج الذي يأتيه من النافذة.