ينشط المخيال السياسي في عصرنا، ويأخذ طابعاً معولماً، بأشكال متعددة وحسب الظروف، وينحو إلى تمزيق المجموعات البشرية لا التوافق بينها، ما يذهب إلى حد ابتداع الأوهام عن صراع امتدّ عبر الأزمنة لن ينتهي إلا بنهاية العالم، وانتصار الحق على الباطل، والخير على الشر، والدين القويم على الأديان الزائفة، لكن ليس من دون افتعال حرب عالمية.
هذا لا يختص به طرف واحد ولا محدد، وإن كانت الأنظار تُوجّه نحو الإسلام كأكبر مصدّر للإرهاب، إذ يجدر الانتباه إلى تحوّل شبّان عاديين ذوي جنسيات مختلفة، على مختلف مشاربهم وتوجهاتهم في الحياة، يعيشون في قارات مختلفة، متنوعين إلى حد أنه من المفترض ألا يجمعهم جامع، بينهم متدينون، وغير متدينين، وأصحاب سوابق على علاقة واهية بالدين؛ إلى أن يصبحوا مجاهدين في بلاد ليست بلادهم، يفصلهم عنها آلاف الكيلومترات، ولا يجدون غضاضة في التضحية بأنفسهم عن عمد بعمليات انتحارية دفاعاً عن عقيدة ربما اكتشفوها مؤخراً، لم يكونوا يعرفونها، أو معرفتهم بها ضئيلة، تحت تأثير عظات دعاة وخطباء تحرّضهم على الموت والتسامي عن الحياة، في زمن بات يعج باضطهاد المسلمين وتهجيرهم وممارسة الإبادة ضدهم، فيتخيلون صراعاً يمتد من الماضي إلى الحاضر، فإذا كسب الشر جولة، فالخير يجرد أسلحته، ويتوثب للانقضاض على أعداء يتناسلون من الماضي، كأن العالم راكد، لا يتحرك، ولا يتغير.
في النظر إلى ديناميكية الإرهاب، يلاحظ أن الشبان المتوزعين شرقاً وغرباً، يجمعهم الإيمان بماض مقدس، ويتشاركون حاضراً متردياً يُرجعون أسباب كوارثه إلى الغرب، ما يدفعهم رغم تفرقهم وأساليب عيشهم المختلفة إلى محاولة استرداد أمجاده، والاعتقاد بأنهم مدعوّون للدفاع عن دينهم في عالم يتشكل من قوتين متعاديتين عبر التاريخ: الإسلام والغرب.
هذا التصوّر، محفوف بالعنف السياسي الغربي واستهانته ببلاد المسلمين، يجعلهم أكثر عرضة لتأثيرات مخيال مرضيّ، ما يحفزهم إلى رد بالغ العنف، في صراع غير متعادل. لا يحقق التوازن بينهما سوى التحوّل إلى قنبلة، ما يسوغ الانخراط في حرب كونية، يعيد الاعتبار الى جماعات هامشية، إذ تخوض صراعاً ضد قوى عظمى.
ليس في هذا التصوّر مبالغة، ففي وسع الأفكار والأوهام والخرافات دفع البشر إلى إعادة تخيّل أنفسهم على نحو لا يستبعد على الإطلاق أن يكون مدمراً للذات.
الغرب أيضاً بتعنّته، يجاري هذا المخيال، عندما لا يرغب في إدراك أن المسلمين ليسوا إرهابيين، كذلك الترويج لإسلام إرهابي يسهم في تحويلهم إلى مجتمعات تحت المراقبة ومشبوهة؛ وفي تصعيد هذا الاتجاه ارتكاب خطأ يصبّ في المجرى ذاته.
ليس عبثاً، إحساسنا أننا في منطقة مهددة، فما جرى في فلسطين والعراق، وما يجري الآن في سورية، يقدّم أكثر من دليل على بلاد مستهدفة. وليس مفتعلاً الشعور بالظلم حيال سياسات غير عادلة، ها هي أنجزت مع "وعد بلفور" قرناً كاملاً من الجرائم.