ماتت أمّي نهدو (كما كنّا جميعاً ندعوها) في دمشق عام 2018، ودُفنت فيها، ولم أتمكّن من حضور جنازتها ووداعها الوداع الأخير، لأني ممنوعٌ من دخول سورية. أمّي وُلدت في دمشق، على الغالب عام 1924، ولو أنّها كانت تُصرّ على أنها من مواليد 1925 لكي تُقرّب من فارق السنّ بينها وبين أبي، قصّةِ حبّها الكبرى، الذي كان يصغرها بما بين سنة وثلاث سنوات، والذي عاشت وإياه قرابة ستّين سنة بحلوها ومُرّها.
وبعدما مات بأكثر من ستّة أشهرٍ لم تبُح خلالها بأيّة كلمة شوق أو لوعة على ذهابه، قالت وهي جالسة في فندق في إسطنبول قرب نافذة غرفتها المطلّة على أروع منظر لشبه الجزيرة بمساجدها وقصورها: "أُعطي نصف عمري لو كان عُمَر هنا معي في هذه اللحظة"، وسكتت. ولكنّها في جملةٍ واحدة مكثّفة اختزلت حبَّ حياتها كلّها.
لم أعرف أمّي بحميمية كما وددتُ أن أعرفها. بعضُ ذلك لأنّي عشت بعيداً عنها سنوات طويلة منذ غادرت سورية شاباً إلى الولايات المتّحدة، وبعضه لأنها كانت إنسانةً كتومة ومكابرة، لا تُظهر مشاعرها إلّا عندما تغلبها تلك المشاعر، كما حصل في آخر لقاء لنا في بيروت قبل وفاتها بخمسة أشهر؛ عندما "بقّت البحصة" وقالت لي: "ماذا جنيتُ من حبّي لك وأميركا قد خطفتك في السنوات الثماني والثلاثين الماضية؟".
كانت في الماضي تؤنّب أبي عندما كان يشتكي من بعدي عنهما وتقول له: "دعيه يعيش حياته كما يبغي ويحب"، ولكنها كانت مثله، تتوجّع لبُعدي ولا تشتكي حتى غلبها ضعف الشيخوخة وباحت بما كتمت طويلاً. ثم دهمتها غيبوبة بعد أيام لم تصحُ منها حتى ماتت بين يدي شقيقتي بعد خمسة أشهر، ولم تُتَح لي الفرصة أبداً لكي أخبرها كم كنت أحبّها أو أن أعرف إلى أي مدى كان غيابي يحزنها ولماذا لم تأت لزيارتي في الولايات المتّحدة إلّا مرّةً واحدة.
هذه الأم التي ذهبت بعد عُمْر طويل كانت رائدةً من روّاد تحرُّر المرأة في سورية، ولو أنَّ ريادتها كانت من النوع الصامت، وربما كانت منقوصة أيضاً لأنها تخلّت عن المنصب الإداري المهم الذي حصلت عليه بجهدها وتعبها - فهي قد عُيّنت أوّل قاضية في ديوان المحاسبات في سورية - لكي تربّي ولديها؛ أنا وشقيقتي.
درست الحقوق وتغنّت بالحقوق وخصوصاً حقوق المرأة وكتبت عنها. ورغبت بأن تستمر في الدراسة حتى تحصل على الدكتوراه في الحقوق أيضاً. ولكن القيم الاجتماعية المحافظة، وتمسُّك والدتها بها، منعاها من تحقيق ذلك الحلم والذهاب إلى باريس بمنحة تفوُّق لكي تدرس في السوربون. ولم تنجل تلك الغصة عن قلبها إلّا بعد أكثر من أربعين عاماً؛ حين نالت شقيقتي شهادة الدكتوراه. يومَها لم تعط نهدو فرحتها لأحد. أولمت وليمة كبيرة احتفالاً ودعت جمعاً غفيراً من الأهل والأصحاب. وكانت كما لو أنها هي التي حصلت على الدكتوراه: وجهها يشعّ رضاً وحبوراً وابتسامتُها تملأ وجهها.
أمّي أيضاً كانت خطيبة مفوّهةً على ما يبدو، ولو أننا، أختي وأنا، لم نعرف هذه الناحية من حياتها. فقد اكشفنا بعد وفاتها في ما جمعته خلال حياتها، وهي كانت إنسانة منظّمةً وضعت أوراقها وصورها في مجاميع مرتَّبةً ومبوّبةً، أنها قد ألقت عدداً من الخُطب في مناسبات عامة في خمسينيات القرن الماضي عندما كانت ترتقي في مهنتها. لفتت نظري من هذه الخطب واحدة ألقتها في أوّل مؤتمر للاتحاد النسائي في سورية عام 1958، بعد زواجها وولادتي بسنتين، بمناسبة عيد الأم الموافق لـ 21 آذار/ مارس، عن الأمّ ودورها وواجب المجتمع تجاهها.
كشفت لي هذه الكلمة جوانب من شخصية أمي وجوانب أيضاً من شخصية جيلها الذي كان أوّل جيل نسائي يتحرّر ويتصدّى لمتطلّبات الحياة بالنزول إلى ميدان العمل العام والسياسي. ولا أجد أفضل من اقتباس مطوّل من هذه الكلمة كتحية إكبار لذكراها في عيد الأم هذا، وكوثيقة تاريخية عمّا كانته أفكار النساء الرائدات العربيات في خمسينيات القرن العشرين.
تقول نهدو: "إنَّ ركب الإنسانية لن يسير في الطريق القويم إلّا إذا كان للأمّ المركز اللائق بها والمكانة التي تستطيع بها توجيه جيل جديد يؤمن ويعمل للمعاني السامية والأهداف الإنسانية الحقيقية. ولن يكون هذه إلّا عندما تُعطَى الأمُّ التعليمَ الصحيح وتتمتّع بحقوقها كاملة ومساوية لحقوق زوجها الرجل. ولن يكون تكريمنا للأم بالاحتفال بعيدها وتقديم الهدايا لها. ولن يكون هذا التكريم حقيقياً إذا لم نحمها من تعسُّف التقاليد البالية، ونمنحها الحقوق التي تحفظ عليها كرامتها، ونعمل على تثقيفها".
تواصل: "فأيّ هدية أثمن من تشريع جديد يقدّمه الأبناء للأمّهات، رافعين به مستوى أمّهاتهم ومعلين من قدرهن. وأيّ عيد نجتمع اليوم للاحتفال به وهناك أمّهات تُركن للأقدار بلا مأوى ولا نفقة، يقاسين مع أولادهن مُرّ العذاب بعد أن سُلّط عليهن سيف الطلاق والهجر، وحُرمن من أولادهن وبيتهن، دون ذنب جنوه أو سبب اقترفوه. وأيّ عيد تُكرَّم الأم فيه، وهناك أمهات ولجن أبواب المحاكم بحثاً عن زوج خائن ورجل قاس وابن عاق، فتصدّت النصوص الجوفاء لتعمل على الانتقاص من كرامتهن والحط من شأنهن".
تبدو هنا لهجة الحقوقية واضحةً وهي ترصّ الدلائل ضد قوانين الأسرة البالية التي كانت - وما زالت - مستخدَمةً في أغلب التشريعات العربية. للأسف طبعاً ما زالت القضية تراوح مكانها بعد مضي أكثر من ستّين سنة على هذه الدعوة.
ثم تختم نهدو كلمتها بمشاعر عروبية متحفّزة تعكس ميولها السياسية، ولكن أيضاً الجو العام المتفائل السائد يومها مباشرةً بعد إعلان الوحدة مع مصر عبد الناصر في فبراير/ شباط: "والاتحاد النسائي العربي السوري يعاهد كلّ أمّ في عيدها هذا أن يبذل كل جهد وتضحية لرفع شأنها ويهنئها في عيدها الأسمى، ويخاطب أبناء الأمة العربية بما قالت العرب: "النساء أمّهات الرجال". فاستجيبوا أيها الأبناء لنداء أمهاتكم واعملوا على تقديرهن وإحلالهن المركز اللائق بهن، ليكُنْ للعرب جيل يعمل من أجل بعث أمّته والنهوض بها، مُعيداً سيرة أجداده ودافعاً ركب الحضارة الإنسانية نحو الحق والخير والجمال. وقل اعملوا فسيرى عملكم الله والمؤمنون".
على الرغم من أنَّ نهدو انسحبت من الحياة العامّة سنوات قليلة بعد هذه الخطبة، إلّا أنها عاشت حياتها كلّها على وقع مبادئها بدون أن تهتم بعواقب تمسُّكها بها في مواقف صعبة. وهي قد استمرت بالإيمان بمبادئها حتى بعد انهيار كل أحلامها السياسية والاجتماعية من فشل الوحدة مع مصر، إلى هزائم العرب المتتالية ضد "إسرائيل"، وبعدها الولايات المتّحدة، إلى العودة إلى طقوس بالية في الحياة العامّة والتحجُّر المتزايد في العلاقات الاجتماعية والحريات الفردية. لم يكسرها حقّاً، كما كان حال أبي قبلها، سوى تفتُّت سورية الوطن بعد فشل ثورتها ضد النظام الظالم. وماتت كسيرة القلب بعد وفاة حبيبها وانهيار وطنها.
* مؤرّخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا