في طريقي إليكِ تمنيتُ ذلك، ربما لم يفكر أحد به غيري، إلا أنني أرغب به بشدّة، أن نمضي بسرعة حتى نكاد نختفي، أنا وكتلة الحديد هذه، بسرعة عالية جداً وبخطٍّ مستقيم واضح، نمضي باتجاه الحاجز الكونكريتي، وعندما تتلامس الحافتان ثم تتداخل وتنكمش السيارة على نفسها، ويشقّ الحديد بطيخة الرأس تموت الذاكرة وتموتين أنت معها ويختفي الألم.
هذا ما لازمني من شعور يوم امتلكت هذه السيارة وحتى هذه اللحظة، كل مرّة يخيّل لي أن أصطدم بشيء قاسٍ جداً ينهي حياتي، ربما يحدث ذلك لي وحدي، وأعتقد أن كل هذا بسبب أبي. أتذكره يوم اشترى سيارته الأولى كانت من نوع مازدا موديل 1993 بيضاء اللون، كنتُ قد حمّلت ذلك اليوم آمالاً كبيرة.
مذ كنتُ طفلاً وأنا أود قيادة سيارةٍ ما، حتى أني صنعت مرّةً سيارة صغيرة، كانت عبارة عن ذراع من الخشب ثبّتُ في طرفه غطاء علبة الحليب البلاستيكية، وصارت تدور على الارض كأنها عجلة، ووضعت في الطرف الثاني مقوداً دائرياً من أسلاك النحاس المطوية، وكنت أجوب دروب السوق القديم القريب من دكان والدي، أوصل الأطفال من مكان إلى آخر، أجعلهم يتمسكون بقميصي من الخلف، وأقود أنا سيارتي السريعة، وكل ذلك من دون أجر.
كبر معي هذا الحلم حتى ابتعت جهازاً لألعاب الفيديو ملحقاً بمقود ومكابح، كنت أقود ليل نهار، أحاول أن لا أكون طائشاً ومتسرعاً حتى داخل اللعبة لأتهيأ لقيادة السيارة الفعلية عندما يشتري والدي تلك السيارة. لكن، في ذلك اليوم الذي احتفلنا فيه بقدوم السيارة تحطمت كل آمالي. منعني أبي من قيادة سيارته ووعدني أن أفعل ذلك عندما أُكمل الدراسة الإعدادية، ثم مدّد الوقت إلى الدخول للجامعة، ثم بعد التخرج، واخيراً قال لي: سأمنحك السيارة عندما تتزوج! (يبدو أنه كان متأكداً أنني لن أتزوج أبداً).
وفي كل تلك السنوات كنت أعاني من كوابيس متعلّقة بالقيادة، أحلم أنني أسرق سيارة أبي ليلاً، وأخرج لأقودها في الشارع الخارجي وأصطدم هناك بجذع شجرة أو جدار، وأدخل في دوامة من الخوف، خشية أن يعرف والدي بالحادث ويقتلني، هذا ما حذّرني منه مرّة.
اليوم بعد أن كبرت وتمكنت من شراء هذه السيارة لم أستطع قيادتها، مخاوفي تلاحقني، أصرّ أبي على أن يمنعني من قيادة السيارة في حياته، ونجح أن يمنعني منها حتى بعد وفاته، لكنه لم يعرف أنني أترحم على روحه في كل لحظة، لأنه ترك لي هذا الخيار، أن أعتمد عليك في قيادة السيارة، لأقتنص فرصتي وأتفرغ للنظر في عينيك العسليتين، والاستغراق في شم عطرك، وتحسّس أصابعك الملتفة حول المقود...
أتذكر تلك اللحظات عندما كنا نستمع لتلك الأغنية وسط الزحام، (لمّا إدينا تلتقي تِمّي عَتِمِّك شو بقي؟) كنت تزدادين جمالاً عندما تشهقين وتحرّكين الهواء، وأنت تستقبلين قبلة على طرف أصابعك...
أتذكر تلك الأصابع أول مرة، يوم تعرفت عليك كنت أختلس النظر إليها، كنت تتحدثين عن الشعر الأميركي وأنا أفكر في أصابعك فقط، لو أنها انزلقت في فمي، لو أني أتذوق طعمها. كنت تتحدثين كثيراً عن الشعر والموسيقى، وأنا أُفكّر أنك القصيدة الأكثر براعة في العالم كلّه.
اليوم، وبعد كل هذا، تتركينني من دون وجهة وأنت كل الجهات، لا أريد الآن سوى أن أضع حداً لهذه الذكريات التي لن تتركني حتى تتلف آخر خلية في دماغي، لذا هذا ما سأفعله؛ سأقود السيارة لأول مرة في حياتي، سأكبس على دوّاس البنزين إلى آخره، سنمرّ بسرعة أنا وكتلة الحديد هذه، سنمرّ على كل تلك الذكريات، بسرعة خاطفة سأواجه لأول مرة كل تلك الكوابيس، كل المخاوف من الاختناق من ضغط الحديد على أضلاعي كل الاحتمالات للحظة الموت التي طالما تدرّبت على استقبالها في منامي.
* كاتب من العراق