الرواية فن غربي، رغم الخلاف حول نشأتها. بعض مؤرخي الأدب يردّ بداياتها إلى اليابان، مع "حكاية جنجي"، التي كتبتها الوصيفة موراساكي في القرن العاشر، ويطلق عليها تسمية "ألف ليلة وليلة اليابانية"، ويعتبرها الرواية الأقدم في العالم.
بعض آخر يرى بدء تاريخ الرواية مع بدء تمايز شكلها عن غيرها من أنواع السرد؛ أي يأخذ بالاعتبار مرحلة نضجها، لا محاولات تكوّنها. على أية حال، إن لم تكن الرواية قد تشأت في الغرب، فلا شك في أنها تابعت تطورها وازدهرت فيه. وبما أنها ظاهرة لا تقتصر على بلد دون آخر، لم يتخلف العالم عن ركب الرواية المندفع كقاطرة نحو الأمام، ينشد في مختلف انطلاقاته تدارك ما فاته من الماضي البعيد، بالتعرف إليه.
فالتاريخ هو الأب الشرعي للرواية، ينبش بالخيال حكاياته المنطوية في سالف الزمان، وكأنها أفلتت من روائيي عصرها، عندما لم تكن الرواية قد اكتشفت، فرُويتْ شفاهاً، لتعذر كتابتها، لتستعاد في ما بعد من الأثير والرماد، وتندرج في منحنيات سرد متعرج سارح، منفلت وجذاب، بدأ يختلق قواعده. ولم يمض حينٌ، إلا وأصبحت الرواية التاريخية أحد أنواع الرواية، إذ أن الواقع فرض حكاياته.
جذور الرواية بتنوعها وعشوائيتها موجودة في جميع بقاع العالم وثقافاته. وما العقل سوى الأداة لترتيب أحداثها على نحو ما. مصادر الرواية من الواقع، أما الخيال فلكي يحلق بها في عوالم غير منظورة، إلا بعين القلب، التي تكسر أو تخترق الحدود بين الأذهان. لم يُخفِ كاتب مثل بورخس، كمثال حاضر وبارز، تأثره بكتاب "ألف ليلة وليلة".
قليلاً ما نجد كاتباً كبيراً، لم يتأثر بـ"الليالي العربية"، أو بالأجواء الشرقية المتخيلة أكثر منها الواقعية، خصوصاً، وبشكل مبكر، أدباء فرنسيين مثل بيير لوتي وموريس بارِس وغوستاف فلوبير. استمد هؤلاء من تلك الأجواء سرديات وأوهاماً وآفاقاً دفعت بعضهم إلى ارتيادها سائحاً ومنقباً وباحثاً عن الحمّامات، ومقاهي الحشيش، وراقصات هز البطن، والفجور الشرقي، فوجد المرض والذباب والفقر والغنى الفاحش والغروب الآفل، وبقايا العظمة الشرقية المدنسة بالغزاة.
قدّم نجيب محفوظ جردة كانت شبه متكاملة للرواية العالمية حتى نهاية القرن الماضي. فمن الرواية التاريخية، إلى رواية الأجيال، ورواية المكان من حارات وأزقة ومساجد، ورواية التساؤلات الكونية، ورواية الشاهد على العصر، والرواية متعددة الوجوه، رواية تيار الوعي، ورواية الشخصيات.. أعطانا محفوظ أشكالاً روائية ناضجة، برسم المتابعة والتجاوز، لتعقبه أجيالاً تمرّدت عليه، لتلتحق بنماذج تأتي من مواسم التقليعات الأدبية السنوية، من الأنواع الأكثر مبيعاً، تلهم معظم روائيي العالم، لا العرب فقط، تحت شعار الرواية الحداثية، الـ"بلا هوية"، عابرة الحدود.
وفّر الروائيون لجمهور القراء روايات تولد في موسم، لتختفي في الموسم الذي يليه. أما الرواية الأكثر بقاء، فهي تلك التي لا تدهمها الشيخوخة مبكراً، إذ الحياة وحدها تقدم المادة إليها، لا قوائم الأكثر مبيعاً.