قرّرت الاستغناء عن الهاتف المحمول قبل ستة أشهر. لم تكن المسألة سهلة كما كنت أتوقع. في الأسابيع الأولى كنت أمشي في الشارع وأتوقف فجأة، أتحسّس جيوبي معتقداً أنني نسيت الهاتف في البيت أو سُرق مني، ثم أتذكر قراري.
عادة ما يطلب مني الأشخاص الذين ألتقيهم لأول مرة رقم الهاتف، فأكتفي بإعطائهم بطاقتي متضمنة الإيميل فقط. أمام إلحاحهم، أعتذر وأصارحهم بالحقيقة. وتتراوح ردود أفعالهم بين الشك والدهشة والإعجاب. ومن الطرائف التي صادفتني أن سيدة قالت لي: "لدي هاتف جديد لا أستعمله، هل تريده؟" شكرتها بامتنان ورفضت بأدب وتجنّبت الخوض معها في موضوع الحرية والانعتاق من المراقبة.
الحقيقة أنني وصلت إلى عتبة الضجر. بدأت أفكر جدياً في آثار التكنولوجيا على الإنسان، خصوصاً الجوانب السلبية كفقدان التحكّم فيها. المصيبة في الهاتف المحمول أنه يجعلك تحت تصرّف الآخرين. بإمكان أي شخص يملك رقمك أن يتصل بك متى شاء.
لقد تنوعت أشكال المراقبة في حياتنا اليومية تحت ذرائع وحجج مختلفة، أغلبها يدعم الشعار القائل: "حرية أقل من أجل أمن أكثر". وبات من الصعب مثلاً الإفلات من الكاميرات المنتشرة في الأسواق والمحلات التجارية والشوارع، ثم تحوّلت وسائل الاتصال كالهواتف المحمولة وفيسبوك إلى أدوات لإبقائنا تحت المراقبة المستمرة.
لدي صديق كاتب إيطالي يعاني من مشكلة نفسية بسبب الفيسبوك منذ أن قام شخص مجهول بإنشاء صفحة تحمل اسمه ويتولى الإشراف عليها بتفان كبير دون أي مقابل.
أرسل له أو لها (أي لنفسه) العديد من الرسائل ولكنه لم يتلق أي جواب. جرّب كل الطرق، تارة كان يهدد باللجوء إلى المحاكم، وتارة أخرى كان يسترضي ويشكر على المجهود. ولما لم ينفع الترهيب ولا الترغيب، قرّر على مضض التعايش مع الأمر الواقع وتحمّل التلصص والسطو على هويته.
من عادة صديقي الاستئناس بالاستعارات، فراح يطلق على الشخص المجهول تسمية "الورم الحميد". لكن يبقى السؤال الذي يؤرقه ولا يجد له جواباً هو: "ماذا سيحدث لو تحوّل الورم الحميد إلى ورم خبيث؟". غالباً ما أواسيه قائلاً: "إننا يا صديقي بشكل أو بآخر تحت المراقبة".
* روائي وأنثروبولوجي جزائري مقيم في نيويورك