في معظم أعماله كان الغيطاني يغمس قلمه في الماضي ويكتب الراهن، وبسبب من نشأته في حي الجمالية العتيق، حيث التاريخ القديم ينبض حياة فيه، كان يتمثّل التراثَ في أعماله: لغة واهتماماً وبناءً.
منذ صدرت مجموعته القصصية الأولى "أوراق شاب عاش منذ ألف عام" وللغيطاني أسلوبه المميز الذي شق لنفسه به طريقاً في مسيرة الإبداع العربي.
لم يكن يشبه أحداً من مجايليه، وربما كان بينهم صاحب مشروع يعرف ماذا يريد منه لنفسه. اكتشافه التراث في مرحلة مبكرة من عمره قاده إلى الرغبة في ابتكار أشكال جديدة للتعبير لا تقف عند حد المنجز الغربي في التصنيفات الكتابية، وإنما تعتمد مصادر التراث ومنابعه وتزاوج ذلك كله بالمنجز الحديث، فلا تكون العودة للتراث سلفية بحتة تتقصّد التقوقع والاحتماء بالقديم، ولا يكون الغرام بالجديد انكفاءً أمامه واستغناءً عن عناصر تراثية ما زالت تبنض حياة.
اهتمام الغيطاني بالتراث مكّنه من الإشارة لبعض العوار الذي يصيب الوسط الثقافي أحياناً، وكتب في ذلك عن عددٍ من المفارقات اللطيفة.
ولأنه كان يعتبر كتب التراث الصوفي من أهم مصادر القص العربي التي يمكن الاتكاء على لغتها وعوالمها الخارقة في خلق معادل معاصر، كتب لائماً: "كثيرون انبهروا عندما قرأوا "مائة عام من العزلة" وتوقفوا أمام مشهد طيران إحدى بطلاتها في الهواء، والتراث العربي الصوفي حاشد بالذين مشوا فوق الماء وعدوا المسافات البعيدة في الزمن القليل ولم يتوقف أمامهم أحد".
الأمر لم يكن مغالاة من الغيطاني، إنما وضع لليد على مكامن المصادر الغربية المهيمنة في الثقافة العربية الحديثة، والتي لا يتوقف حدود تأثيرها عند الأدب أو الفلسفة أو التقاليد الثقافية، وإنما تمتد لتشمل طبيعة الحياة ذاتها.
لم يكن اهتمام صاحب "دفاتر التدوين" بالتراث نابعاً كما أسلفنا من سلفية ماضوية، لأنه اعتبر مفهومه للتراث يتسع ليشمل تراث هذه المنطقة من العالم التي نعيش فيها، إضافة إلى التراث الأوروبي الذي كانت له السيادة والهيمنة.
إلى جانب التراثين العربي والإسلامي، اللذيْن قارب لغتيهما في كثير من أعماله، كان اهتمامه بالحقبة الفرعونية وآثار امتدادها في الثقافة المصرية، في طقوس بعض الاحتفالات كشمّ النسيم وبعض مفردات لغة المصريين اليومية مثلاً، إضافة إلى اهتمامه بالثقافة الفارسية والهندية، والحضارات التي سادت في تلك المناطق.
الأمر عند صاحب "استعادة المسافر خانة" كان أشبه بحلقات متداخلة، دوائر من التأثير والتأثر، لكنها لا تنسيه نقطة الانطلاق. كتب ذات مرة "بشرط ألا أغيب أو تغيب عني الدائرة المركز، أقصد التراث العربي بمفهومه الشامل".
فكرة المركز تحديداً شائعة في تراث التصوف الإسلامي، وإلى جانب اهتمام الغيطاني المباشر بهذا المعنى الصوفي واستعارته لفكرة الانطلاق من جذر والعودة إليه، تبدو الفكرة مفسرة لاهتمام الراحل بفكرة البطل المخلّص، حيث البطل مركز احتماء من السلطة، وحيث فتوة الحارة في مكان نشأة الغيطاني هو الحامي من اعتداءات الأغراب وغارات الفتوات الآخرين.
لهذا ربما لم يخرج صاحب "الزيني بركات"، ومعه مجايلوه، من المعتقلات الناصرية ناقمين على عبد الناصر وتجربته، لأن إيمانهم بالفرد المخلّص كان أعمق من حريتهم الشخصية، التي استعاضوا عنها بحرية نسبية في كتاباتهم، ومن أجلها احتمى الغيطاني بالتراث في كتاباته.
شغف الغيطاني الكبير بالتراث مكّنه من اكتشاف عناصر الاستمرارية في الثقافة المصرية، وربما كان ذلك مما انطبع على روحه فأضفى عليه هذه الرقة والتسامح.
تلك الاستمرارية لم تكن جامدة -كما رأى الغيطاني وكتب وحكى- بل إنها صهرت الجديد بالقديم، حتى أنها صهرت غزاتها في ثقافتها الخاصة. غيّر المصريون لغتهم من الهيروغليفية إلى الديموطيقية إلى القبطية فاليونانية ثم العربية، واستبدلوا دينهم غير مرة، لكن مصر لم تكن أبداً شيئاً خالصاً من هذا أو ذاك.
بمعنى من المعاني كان الغيطاني هو كل ما يبشّر به. حماسته في الكتابة عن التراث العربي الإسلامي كانت هي نفس الحماسة التي تستشعرها إذا ما قرأت نصوصه عن الفراعنة وتراثهم المعماري، واهتمامه بالتعريف بالمكوّن القبطي في نسيج الشخصية المصرية، كان يضاهيه تبحّره في تراث الإسلام الصوفي، وحتى اهتمامه الصوفي بفكرة المركز جعله ربما لا يتصوّر مصر بغير مركز سياسي يحميها، حتى ولو كان بالحديد والنار.
لم يكن الغيطاني قديساً ولا متصوفاً لكن روحه- وبغير أن يكون هذا مبالغة لغوية- كان فيها من هذا وذاك. صفاءٌ اكتسبه من عِشرة كتب المتصوفة، ورقة طبعٍ اتّسمت بها نفسه، وطبَعَه عليها حيّه العتيق حيث البيوت أرحامٌ متواصلة ومتصلة.
توقف قلب الغيطاني صباح اليوم، وسلّم المركز النابض جسده لراحة أبدية.
اقرأ أيضاً: جمال الغيطاني: الرحلة الأخيرة من المسافر خانة